فلسطين أون لاين

كيف لي أن أعود للكتابة عن الدنيا ومحتوياتها؟

مدَّ وجزر يتقاذفني باستمرار. يوجع قلبي وتطفح نفسي ألمًا وبؤسًا. أمدُّ نظري في الأفق البعيد، أجد أنني قد نسيت وجود الشمس وضوء النهار والطيور المحلِّقة وعبق الأزهار الشذية، ولا يعلق في ذهني إلا الغيوم الباهتة التي تتآزر بعبوس وتتكاتف في السماء لعلها تسدُّ الأفق وتحجب دفء الشمس. حتى قبل عدة أشهر، كنت أكتب عن الدنيا والسعادة وعالم الطفل والمرأة ومشكلاتهم اليومية والنفسية وما يخص حياتهم وصحتهم وعن العلاقات الزوجية والحب والشغف وفنون التربية والظواهر الاجتماعية بشتى أنواعها، دون أن أنسى الكتابة عن الأسرى وهموم الوطن أيضًا.. ولكن وبغير قصد مني وجدتُ شيئًا وقد تغير جذريًا فيَّ. وكأنني لست أنا ذاتها منْ كنت قبل أشهر.

شهر رمضان الماضي (للعام الهجري ١٤٤2)، كان فترة صعبة جدًّا وقاسية على نفسي، ليس بسبب الصيام والعبادة المتواصلة وما يلحقها من إرهاق جسدي وراحة نفسية. أبدًا، فإن ذلك محبب إلى نفسي جدًّا، ولكن لأني أخذت أرابط في المسجد الأقصى بشكل شبه يومي من الصباح الباكر حتى صلاة التراويح، وأصبحت أرى عن قرب كل ما يحدث في المسجد الأقصى من تدنيس وانتهاكات مستمرة..

أحب المسجد الأقصى، بل أعشقه. أحبُّ حجارته وترابه وعبق التاريخ فيه وسِيَر الأنبياء والصالحين والعلماء الذين داسوا ترابه وتركوا فيه آثارهم ومنهم أيضًا من ضم ثراه رفاتهم الطيب. وعشقي ذاك يدفعني دومًا إلى الاهتمام بأخباره اليومية ومتابعتها باهتمام. ولكن يقولون: من يرى ليس كمن يسمع! فبعد أن أصبحت أرى بعيني. تغيرتُ. أجل تغيرت.

صرت أخجل أن أكتب عن الدنيا وأحوالها وهمومها، أصبحت هموم القدس والأقصى هي المسيطر الأكبر على قلمي!

لنعد إلى السبب الذي دفعني إلى قول ما أقول، فقد اعتدت ومنذ فترة أن أكتب عن القدس. في كل مرة أكتب عن شخص يرتبط فيها أو مكان يحضر في أقصاها، فأحكي على لسانه حكايته الخاصة التي يتطلع القراء لسماعها ومعرفة تفاصيلها. ولأسباب خاصة ومرضية، انقطعت منذ ما يزيد على شهر من الذهاب للقدس والرباط في الأقصى، فانقطع حبل الحكايات وأشخاصها، برغم أني أحاول طوال الوقت أن أتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع أُناس يهمني سماع حكاياهم وإعادة سردها لقرائي الأحبة، ولكني بتُّ أفشل في مهمتي في كل مرة. وها قد بدأ هذا الأسبوع دون أن يكون لدي حكاية مقدسية جديدة أرويها. وخلال يوم عليَّ أن أُسلم مقالي لصحيفة فلسطين ليتم نشره في وسط الأسبوع. جلست الليلة أمام حاسوبي تراودني الحيرة. وضعت عدة عناوين تخص العلاقات الاجتماعية وهموم الأبناء. كتبت في كل منها سطرًا أو سطرين ثم أغلقتها وغادرت. والخجل من الكتابة في هذه الموضوعات يلاحقني، وليس في ذهني سوى سؤال واحد: كيف لك أن تكتبي في موضوعات مثل هذه، والأقصى مُدنس والقدس مُحاصرة مهددة بالهدم والتهويد؟ أليس هذا عيب في حقك أيتها الكاتبة التي تصف نفسها بأنها صاحبة قلم مُقاوم؟

أُعاجل إلى مسح ما كتبت، ثم أعود للتفكير بعمق لعلي أهتدي لفكرة جديدة أكتبها. ولكن الخجل يعود لمطاردتي ويُصرُّ عليَّ إلا أن أكتب في وجع وطني الذي يؤرق قلبي ويُتعبني!

كيف لي أن أتجاوز قضية كل الأسرى عمومًا وقضية أبطال النفق أسرى جلبوع تحديدًا؟ وكيف لي أن أقفز على حصار غزة وجوعها وطبول الحرب التي تقرع فيها بحدة رغم أن البيوت التي دمرها الاحتلال في الحرب السابقة حرب سيف القدس لم تُعمَّر بعد؟ وكيف لي أن أكتب في موضوع غير الأقصى الذي زادت فيه انتهاكات الصهاينة عن الحد ولم يعد هناك من شيء يردعهم أو يقلل من أذاهم؟ وكيف لي أن أنسى الاستيطان الذي ينهب أرضي ويسلب ماء وطني، واتفاقيات الذل والعار التي تمضغ كرامتنا وتريق دماءنا دون أن أعثر على بواكي تبكي لأوجاعنا ومهانتنا؟

أعتذر لك يا حروفي وكلماتي ولغتي. أعتذر لك أيتها العربية الحبيبة. صحيح أنك تتسعين لكل معاني الكون ولكل الظواهر النبيلة والجميلة ولكن وطني ومقاومته وبطولات أبنائه أنبل وأجمل ظاهرة أجد أن بمقدورك أن تصفيها وتعبري عنها بطلاقة تليق بك.