لا شك أنكم تشاهدون البائعات الفلاحات على جوانب باب العمود وعلى أدراجه في الصور والفيديوهات وعندما تزورون القدس.. فهنَّ جزء لا يتجزأ من المكان، بل إن وجودهن يعطي رونقاً خاصاً لا أحد يستطيع إنكاره.. فلاحات بأعمار مختلفة، يرتدين الثوب الفلسطيني المعروف المطرز بألوان وزخارف غاية في الروعة، يدثِّرن رؤوسهن بأوشحة تغرق عرقاً في الصيف، وفي الشتاء تقطر ماءً يتساقط من غيوم السماء.. نساء استبدلن الأصباغ الصناعية ببسمات مشرقة حازمة تصبغ شفاههن، وإيماءات بشوشة تجذب المارة لشراء ما يعرضن من خضار وفواكه.. ولا ننسى الألوان الصارخة التي تلون وجوههن بجرأة، إنها ألوان الشقاء والكد أيها السادة! فلا مصدر رزق لأسرهن إلا هنَّ..
وقد اعتادت الفلسطينية أن تكون هي عمود البيت وستره في حالات كثيرة، منها أن يُستشهد الزوج أو الأخ أو الأب، أو يؤسروا، أو يصابوا بإصابات وجراح تمنعهم من السعي خلف الرزق.. وما أكثرها من حالات! فتسارع المرأة إلى شد إزارها، وارتداء ثوبها الفضفاض، وتنطلق إلى العمل غير آبهة بالخشونة التي تعتري يديها والاسمرار الذي يعلو جبينها ووجنتيها على أثر ذلك.
لا عجب أن تراني أتحمَّل يومياً مشاقَّ جمة لأصل إلى هنا، فأبلغ مقصدي أحياناً.. وفي أحيان أخرى أضطر للعودة من حيث أتيت خالية الوفاض!! فالمكان الذي أقصده صباح كل يوم يختلف عن أي مكان آخر في الدنيا.. نعم، إنها القدس يا سادة، والقدس تستحق!
أرجو أن تنصتوا لحكايتي القديمة الجديدة التي بدأت قبل ما يربو على أربعين عاماً وما تزال فصولها مستمرة.. ولا أظنني أغيِّر شيئاً مما اعتدت عليه إلا عندما أغادر هذه الحياة الفانية. كنت حينها في العشرين من عمري، فتيَّة جميلة يغمرها الشباب وحيويته، حين أحمل سلتي القش كبيرتي الحجم، إحداها على رأسي والأخرى بيدي، اللتين تحويان داخلهما الخضار والفاكهة الطازجة والمجففة والزبدة البلدية ولبن الكشك... لأقصد القدس القديمة أجري خلف رزقي بين أزقَّتها.
كانت الطريق من بيت لحم إلى القدس لا تستهلك من وقتي أكثر من ربع ساعة في السيارة.. ولا أظنه يخفى عليكم أن بيت لحم تقع مباشرة خلف القدس إلى الجنوب منها، فهي قريبة جداً، لدرجة أن جدي كان يقطع الطريق ذاتها في ساعتين على حماره المُحمَّل بالخضار والفاكهة..
لست وحدي من تفعل ذلك كل صباح، بل رجال غيري ونساء أيضاً كلهم يحذون حذوي، كما أن جدتي كانت تفعل ذلك أيضاً؛ لذا لم يكن اتخاذ قرار التوجه للقدس يومياً لبيع ما تنتجه أرضي بالقرار الصعب! بقوة امرأة فلسطينية تبحث عن رزق أسرتها أحمل سلالي وأنطلق في الصباح الباكر بعد أن أُصلي الصبح وأنا أرتدي ملابس الخروج، وأحياناً تكون سيارة الأجرة بانتظاري حتى قبل أن أفرغ من صلاتي.
وبما أن جدار العزل العنصري يعزل بيت لحم عن القدس تماماً ولا يمكن دخول القدس إلا من خلال معبر لا يجتازه إلا من يمتلكون تصاريح خاصة يصدرها الاحتلال.. وبما أنني لستُ من الفئات المخولة للحصول على تصريح، فلا بد من وسيلة أخرى..
ونحن الفلسطينيين لا نعدم الوسيلة لابتكار أساليب جديدة تحقق لنا احتياجاتنا، وتوصلنا إلى ما نريد؛ لذا أصبحت الفتحات وسيلة مناسبة وممراً لأمثالي..
أجتاز السياج إلى عقبة حسنة، وأسارع للركوب إلى القدس حتى لا يعاجلنا جيب عسكري فيعتقلنا ويعيدنا من حيث أتينا.
قرب الساعة العاشرة أصل غالباً (حسب التساهيل طبعاً)، وفي المصرارة أهبط متَّجهة إلى باب العمود، أنزل الدرج الطويل، متشبثة بسلال القش، حتى إذا وصلت إلى مكاني المعتاد، فردت شرشفي، وعليه صففت ما أحضرت لأبيع، ووضعت الميزان النابض البسيط في متناول يدي.. دوالي، تفاح سكري، برقوق، توت بري، تين، صبر، باذنجان، كوسا بلدي، يقطين، ميرمية، زبيب، دبس عنب، دبس رمان، زيت زيتون... الخ، ثم أجلس أرضاً أمام بسطتي وأسند ظهري على الحائط أنتظر بيعة استفتاح تلفت انتباه الرزق إلى وجودي في هذا المكان.
أحياناً يُبكِّر الرزق في طرق بابي، فأبيع ما حوته سلالي، ومع انتصاف النهار ألملم أمتعتي الخاوية وأعود أدراجي.. وفي أحيان أخرى تقترب الشمس من الزوال وما زال في سِلالي الكثير، وعلى الرغم من ذلك أحملها، وأوزع ما أستطيع على المارة وأصحاب الدكاكين قبل أن أرجع إلى بيتي.
قد يتبادر لأذهانكم السؤال عن مصدر بضاعتي.. لذا سأخبركم أن أسرتي تزرع وتقطف وتحضِّر لي الثمار وتصنع الدبس ولبن الكشك والزبد والقطين وغيرها خلال ساعات النهار، ويجهزون لي كل شيء في عبواته التي أُرتبها في سلال القش قبل أن أخلد إلى النوم لأمضي بها إلى القدس في صبيحة اليوم التالي. يحدث أحياناً أن أتخلف عن الذهاب عندما أكون مريضة أو لدي ما يمنعني.. ولكني لا ألبث وأعود بعد يوم أو يومين، فباب العمود قطعة مني يعزُّ عليَّ فراقه، ولذة مكوثي تحت أحد أقواسه لا تضاهيها لذة.
صحيح أن بلدية القدس تضع أمامنا العراقيل، وتضيِّق علينا، فتصادر بسطاتنا، وتتلف بضاعتنا... حتى لا نعود مرة أخرى.. ولكنهم لا يعلمون أنهم مهما فعلوا بنا وحاصرونا، فلن نتوقف عن العودة إلى هذا المكان.. لأننا نحن الأصل وهم العابرون المؤقتون!