لا يخفى على أحد أن نزاهة أي نظام سياسي وسلامته من شبهات الفساد تتطلبان بناء نظام متكامل يرتكز على أنظمة رقابية وتشريعية وقضاءٍ مستقل وفاعل، ومؤسسات تمثيل وطني فاعلة، الأمر الذي يتطلب أن تضطلع النخب المجتمعية بدورٍ فعال في ممارسة الرقابة على المؤسسات والموارد العامة.
أما السلطة الفلسطينية فبعد أن أجريت الانتخابات البرلمانية عام 2006، وحصدت حركة حماس من طريق قائمتها "كتلة التغيير والإصلاح" 76 مقعدًا، مشكلةً ما نسبته 57.6% من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني؛ تعالت الأصوات الرافضة تلك النتائج، وبدأ مسلسل الفلتان الأمني و"الخمسة بلدي" بهدف تعطيل الحياة السياسية ومعاقبة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لحركة حماس، وقد شاركت السلطة على مختلف المستويات القيادية في ذلك الفلتان.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تحرك الاحتلال الإسرائيلي إلى جانب السلطة باعتقال النواب المنتخبين، وعلى رأسهم رئيس المجلس التشريعي د. عزيز دويك، بهدف تعطيل عملية الرقابة على السلطة، وضمان عدم إعطاء حركة حماس متنفسًا للتحرك بين الجماهير من طريق المؤسسات الرسمية، والانتقال من إدارة الشأن التنظيمي الخاص إلى إدارة الشأن العام.
وفي ديسمبر من عام 2018 أعلن رئيس السلطة محمود عباس أن "ما أسماها" المحكمة الدستورية قد قررت حل المجلس التشريعي، مؤكدًا بذلك تبادل الأدوار مع الاحتلال في تخريب النظام السياسي الفلسطيني.
واستمرارًا في نهج تعطيل مؤسسات الرقابة أعلن عباس تأجيل انتخابات المجلس التشريعي نهاية أبريل 2021، الذي عدته النخب السياسية انقلابًا على مسار الشراكة والتوافقات الوطنية، وقد سوغ عباس القرار بعدم سماح كيان الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين بالتصويت في شرقي القدس، رغم أن كيان الاحتلال لم يصدر أي قرار بشأن السماح أو المنع، ووجود آليات للتصويت اعتمدت في انتخابات عام 2006 يمكنها تجاوز عراقيل الاحتلال.
وضمن تلك الانتخابات كانت قائمة "الحرية والكرامة"، وكان على رأسها نزار بنات، وهو الناشط السياسي والحقوقي، الذي اشتهر بدفاعه عن مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية، كما نشط ضد مشروع التسوية واتفاقية أوسلو، واشتهر بانتقاده سياسات السلطة، بممارسته حقه المكفول في كل الشرائع والقوانين، بالتعبير عن رأيه وكشف الفساد واستغلال النفوذ، الأمر الذي دفع أجهزة أمن السلطة لمضايقته مرارًا، واعتقاله عدة مرات، حتى صدر القرار بإسكات صوته واغتياله في عملية صُوِّرت أنها محاولة لاعتقاله، تكاملت فيها جهود السلطة والاحتلال.
هذا التكامل يشير إلى حرص الاحتلال الإسرائيلي على إبقاء قبضة السلطة الأمنية قوية في مواجهة المعارضين السياسيين، وإن انتهكت القوانين والأعراف، فالاحتلال يهتم أساسًا بأمنه، ويخلق لذلك حالة من التبعية في محيطه، تريحه من متابعة وملاحقة التهديدات المحدودة التأثير؛ ليتفرغ للعمل على جبهات أخرى وتعزيز اقتصاده ومكانته الإقليمية والدولية دون أن يلاحق باتهامات تتعلق بحقوق الإنسان.
لا يمكن الفصل بين التبعية للاحتلال، والفساد والإجرام، فالمنطق يقول إن من يسمح لنفسه بأن يكون عونًا للاحتلال على شعبه لا يمكن أن يكون نزيهًا أو حريصًا على شعبه، بل إن الحفاظ على مصالح الاحتلال يجعله يتجرد شيئًا فشيئًا من ارتباطه بقضيته.
فهل من فساد أكبر من التجرد من القيم الوطنية للشعب الفلسطيني؟! وهل يبقى أثر من نزاهة بعد التعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال؟! وهل يمكن لمن يلاحق المقاومين والمعارضين السياسيين وأصحاب الرأي أن يكون أمينًا على مقدرات الشعب؟!