دخلت الباب المعدني السميك خلف المحقق الذي حمل بطاقة هويتي وموبايلي، وانحرف شرقًا إلى غرفة ضيقة فيها مكتب خشبي واسع، خلفه كرسي مريح بعجلات، وأمامه كرسي بلاستيكي عادي، يعزل الجالس خلف المكتب حاجز بلاستيكي مرتفع أشعرني وكأنني في غرفة منفصلة. طلب مني المحقق أن أجلس على الكرسي أمام المكتب، ثم استدار وأغلق الباب وعاد إلى كرسيه، فنهضت بتوتر وفتحت الباب وأنا أقول: إما أن تُحضر لي محققة أُنثى، أو تدع الباب مفتوحًا، ديني يُحرم عليَّ أن أجلس برفقتك في غرفة مغلقة معزولة!
بعصبية ظاهرة قال: أولًا لا يوجد هنا محققات، وثانيًا: يجب أن يبقى الباب مغلقًا، هذه اعتقادات بالية وليس دينًا.
قلت له بحزم: اعتقد ما تشاء، ولكن هذا ما أؤمن به.
طرق الباب شخص طويل وطلب مني أن أتبعه، ففعلت، قطعنا الممر وانحرف غربًا إلى غرفة صغيرة فيها مكتب، طلب مني أن أجلس أمامه وبدأ حديثه بالتعريف عن نفسه وقال: أنا المحامي فراس جبريني من مركز معلومات وادي حلوة لرصد انتهاكات الاحتلال، أنا هنا للدفاع عنك.
أخذ يستفسر عن معلوماتي الشخصية.. لم أثق به، وخشيت أن يكون واحدًا منهم، فلم أُجبه بصدق وخاصة عندما سألني: لماذا اعتقلوك؟ رويت له حكاية أخرى.. وقبل أن يغادرني، قال لي: من حقك ألَّا توقعي على أي ورقة، ومن حقك أن ترفضي أن يحقق معك محقق ذكر، من حقك أن تلتزمي الصمت وأن ترفضي الإجابة عن أسئلة المحقق.. وقال أخيرًا بصوت منخفض: أنكري أي تهمة يوجهونها لك.. وأظهري أنها مضخمة جدًّا.. وآخر كلمة قالها لي: لا تخافي، ستخرجين بسلام إن شاء الله!
حضر المحقق مرة أخرى، واقتادني إلى غرفته، جلست بهدوء، وحاولت الاسترخاء قدر الإمكان وإبعاد التوتر عني، لدرجة أني سيطرت على لغة الجسد بالكامل.
بدأ بالسؤال عن اسمي، حالتي الاجتماعية، عدد أبنائي، مكان سكني، عملي، رقم هاتفي. ثم سألني فجأة ودون مقدمات: لماذا أنت هنا؟
أجبت: اسأل من أحضرني! -ألم تفعلي شيئًا تسبب في اعتقالك؟ -أبدًا -لماذا اعتقلوك إذًا؟
- لا أدري.. كنت أُبارك لعروسين في الأقصى، فهاجمني شرطي وطلب مني الهوية وقال لي أنت رهن الاعتقال.
- أنت حاولت إثارة الشعب في الأقصى.
قهقهت بصوت مسموع وقلت باستنكار: يا إلهي.. إثارة الشغب دفعة واحدة؟
قال بصوت مرتفع حانق: لا تستهيني بما قمت بفعله.. شيء بسيط يمكنه إشعال أحداث كبيرة في الأقصى!
صمتُّ ونفسي تدفعني لأن أقول له: ما دمتم تعلمون ذلك، لماذا تدفعون بهؤلاء الخنازير إلى اقتحام الأقصى وتدنيسه؟ أبعدوهم عنه، وسترى كيف سيبقى كل شيء هادئًا.
ولكني آثر التعقل والبقاء على صمتي.. أعاد السؤال مرة أخرى.. فقلت: ألتزم الصمت وأرفض الإجابة.
قال لي: كل شيء يثبت أنك مثقفة وعلى مستوى عالٍ من العلم.. أريد أن أسألك سؤالًا.. نظرت في وجهه!
فقال: إثارة الشغب، هل تتوافق مع القانون في اعتقادك؟ فقلت بسخرية: وما تعريفك بمصطلح إثارة الشغب؟ وأي شغب تقصد؟ صرخ بي بحنق: لا تتفلسفي عليَّ.
وعاد يقول: أجيبي.. فقلت: قبل أن تُكمل هجومك عليَّ: أولًا، أنت لم تُعرِّفني بنفسك.. كيف لي أن أتحدث معك وأنا لا أعرف أي شيء عنك. قال: مروان. ظننت أن هذا اسم عائلته، فسألته مرة أخرى ما اسمك... فعاد يقول: مروان.
قلت: مروان ماذا؟ أجاب بغضب: لا يهمك! قلت: بلى يهمني، قال: مروان غزالة قلت: إذًا عربي! فلوى وجهه بحنق.
عدت أسأل: من أين يا مروان؟ كاد يُجن وهو يقول: وماذا يهمك من أين أنا؟ فأجبته بالإنجليزية: Just to know.
فقال: من الشمال.. فتأكدت من أنه درزي.. كلاب اليهود.. مثل عادتهم.
عاد يقول: هل شاهدت يهود في الأقصى؟
- طوال الوقت يوجد يهود في الأقصى -أسألك سؤلًا واضحًا.. هل شاهدت يهودًا في الأقصى؟
- وأنا أجبتك جوابًا واضحًا، طوال الوقت يوجد يهود يرتدون ملابس عسكرية في الأقصى.
كاد يُجن وهو يقول: هل صورت اليهود في الأقصى؟ -لا. -هل أنت متأكدة؟ -نعم.
خشيت أن يفتح موبايلي فيشاهد الفيديوهات التي صورتها للمستوطنين خلال اقتحامهم، ولكنه لم يفعل.
عاد يقول: لماذا صرخت في اليهود وتعديت عليهم؟ -أنا لم أصرخ على أحد.
فإذا به يفتح فيديو على الحاسوب أمامه، وسمعت صوتي بوضوح أصرخ بهم وأطردهم قائلة: انقلع انت واياها من هون.. وأقول للشرطي: اقلعهم من هون الأقصى إلنا.
حدق في وجهي ترتسم على ملامحه علامات انتصار وهو يقول: ما رأيك؟
قهقهت بقوة.. دون أن أنبس ببنت شفة.
أكمل الضغط على لوحة المفاتيح، حتى إذا انتهى من طباعة ورقة مررها لي قائلًا: وقعي!
نظرت فيها فإذا بها مكتوبة بالعبرية.. رفضت التوقيع. قال بغضب: قلت لك وقعي.
- لن أوقع ومن حقي رفض التوقيع.. -ولماذا؟ -وما يدريني ماذا كتبت بها؟ أخذ الورقة وبدأ يترجم لي أقوالي على حد زعمه.. فقلت: لن أوقع -إذًا لنأخذ بصماتك -أنا غير موافقة -ولكن لن تخرجي من هنا دون أخذ بصمات -من حقي أن أرفض.
- ليس من حقك.. سأضطر إلى توقفيك حتى استصدار أمر من المحكمة بأخذ بصماتك.. ما رأيك؟ -أريد المحامي.
- المحامي غادر إلى بيته -أريد المحامي -هل نتصل به؟ -موافقة (رغم شكوكي أنه سيكذب علي).
اتصل على الموبايل على اسم شاهدته مكتوبًا بالعبرية (التي أستطيع تهجئة حروفها):" فراس جبريني".
شرح المحقق الأمر للمحامي، ثم أعطاني الموبايل لأسمع ما يقول: من حقك أن ترفضي.. ولكنهم وبأمر من المحكمة يستطيعون إجبارك!
اضطررت للموافقة ولكن بشرط أن تكون امرأة التي تأخذ بصماتي.. وكان لي ذلك.
ما يربو على ساعة أوقفوني أمام جهاز للمسح الضوئي لأخذ بصمات اليدين.. رؤوس الأصابع العشرة، كامل الأصابع، كل إصبع على حدة، كف اليد، جوانب اليد.
بدأت الظلام يتسرب بهدوء إلى المكان حين ناولني المحقق ورقتين، قال لي بأنهما أمر بالإبعاد عن القدس والمسجد الأقصى وكفالة، وأمرني بالتوقيع عليهما.
كانت عبارات قليلة مكتوبة بالعربية قرأت إحداها: تُبعد عن" أورشليم" القدس لمدة أسبوعين.. فيما تمتلئ الورقتان بكتابات عبرية وروسية وأحرف غريبة أخرى سألت عنها فقال المحقق: أحرف اللغة الإثيوبية.
رفضت التوقيع لأني لم أفعل شيئًا يستحق أن أُبعد من أجله عن الأقصى درة عيني والقدس مهجة قلبي.. ولكن هو الظلم الذي يعتقد المحتل أنه من حقه أن يمارسه علينا بلا رادع.
وقفت استعدادًا للخروج.. ولكنه قال لي: قبل أن تغادري أود أن أوجه لك نصيحة من شخص حريص على مصلحتك.. ضحكت، وتذكرت قول عمر أبو ريشة رحمه الله:
لا يلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدوَّ الغنم..
هذا الدرزي كلب اليهود يدَّعي أنه حريص على مصلحتي.. ويريد أن ينصحني أيضًا! عجبًا
قال: هذا الملف (ورفع الملف الذي أعدَّه لي) لا تدعيه يتلوث بتصرفات ستضر بك.. لن يمنحوك تصريحًا إن تكررت.. سأطلق سراحك الآن.. سارعي بالذهاب إلى المحطة في شارع صلاح الدين ومنها إلى البيت.. لا تعودي للبلدة القديمة، لا أريدك أن تعودي إلى هنا الليلة!
ناولني بطاقة هويتي وموبايلي وفتح لي الباب، فغدا بي في باب الخليل.. ملأت رئتي بهواء القدس الحبيبة.. وشعرت بي أتنسم الحرية بعد سنوات من الاحتجاز.. نظرت أمامي للشارع.. كان اليهود المتدينون يملؤون الطرقات بملابسهم التي تميزهم.. يا إلهي.. قدسنا يلوثها هؤلاء ويتحركون فيها بحرية تامة وكأنها لهم.. ونحن نُعتقل ويُحقق معنا!
اتصلت بزوجي وأخبرته بخروجي.. حفاوته الشديدة بي شدَّت من أزري وأسعدتني.
سرت في طرقات البلدة القديمة موجوعة الفؤاد دامعة العينين أرى الذل يمشي على قدمين ويتراقص بلا هوادة.. لأجد نفسي أمام باب السلسلة دون قصد مني، راودتني فكرة الرجوع، ولكني خشيت أن ألفت انتباههم، فرفعت رأسي، ومشيت بثقة وقوة بينهم وانطلقت نحو المسجد الأقصى متجاهلة وجودهم.. وفي اللحظة التي وضعت فيها رجلي على بلاط الأقصى صرخ أحدهم من خلفي بقوة: حجة قفي!
تسمرت في مكاني.. ونظرت للخلف، فإذا به الشرطي نفسه الذي اعتقلني من أمام البائكة الشمالية.
صرخ بعصبية: لماذا عدت إلى هنا؟ -لقد ضللت الطريق -أنت لم تضلي، بل أردت العودة للصلاة -هذا غير صحيح، أريد الذهاب إلى باب الأسباط لأعود إلى بيتي، وقد سألت الناس ولكني تُهت -لماذا لم تسألي الشرطة.. لم أجب عن سؤاله وأقول له بأني لست مستعدة لسؤال هؤلاء الخنازير.
فقال: عودي من حيث أتيت قبل أن أعتقلك.. قلت: دعني أَمرُّ من هنا إلى باب الأسباط.. صرخ بي قائلًا: لن تدخلي.. سأعتقلك.. -إذا أردت رافقني حتى باب الأسباط لتتأكد بنفسك، لقد تعبت من المشي ولا أستطع أن أمشي المسافة التي قطعتها مرة أخرى -لن تمري من هنا.
اضطررت إلى العودة من حيث أتيت يملؤني الغيظ والقهر، دون أن أتوقف عن البكاء.. مسافة طويلة مشيتها داخل البلدة القديمة تائهة حائرة لم أستطِع الكف عن البكاء، حتى وصلت طريق المجاهدين.. أمام عتبة أحد البيوت جلست لأستريح قليلًا، فإذا بطفل صغير يلعب.. اقترب وسألني: خالتو.. عاوزة حاجة؟ شكرته بحب دون أن أستطيع إمساك دموعي.. ثم تابعت طريقي إلى مكان انتظار الحافلة، صليت ما فاتني في الشارع.
وصلت إلى البيت في وقت متأخر تغالبني مشاعر متضاربة.
قد يوقفني قرار إبعادهم لي أسبوعين عن الذهاب للأقصى.. ولكني سأعود رغمًا عنهم.. وما هو إلا بعض الوقت وسيأتي مجاهدونا للقدس فاتحين محررين بإذن الله.