لا تزال قيادة السلطة الفلسطينية تبحث عن شريك إسرائيلي يشاطرها سعيها في العودة إلى دائرة المفاوضات، وهو أملٌ عاد وانتعش، بعد أن خبا بريقه في عصر ترامب – نتنياهو، ومما يجدر ذكره أن الرئيس محمود عبّاس كان، خلال معارضته صفقة القرن، أمينًا لموقفه المتمثل بالسعي إلى استئناف المفاوضات، وربط بين رفض خطة ترامب – نتنياهو والعودة إلى مسار التسوية عند انهيار الصفقة، الأمر الذي تحقّق بهزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتلاها سقوط بنيامين نتنياهو، ومجيء حكومة يمينية أخرى بزعامة نفتالي بينت، قائد الاستيطان الصهيوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، عبر ائتلاف جمع أقصى اليمين الصهيوني الديني مع بقايا اليسار الصهيوني، وبغطاء هشٍّ من أصوات عربية بزعامة منصور عباس.
في الجانب المقابل دأبت الحركة الصهيونية على إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وبعد اتفاق أوسلو الذي اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بحق (إسرائيل) في الوجود مقابل اعترافها بأن المنظمة هي التي ستمثل الشعب الفلسطيني في المفاوضات على الحل النهائي، الأمر الذي عده كبير المفاوضين الفلسطينيين، الراحل صائب عريقات، الإنجاز الأكبر لاتفاق أوسلو، لأن (إسرائيل)، على حد زعمه، اعترفت بالفلسطينيين "شعبًا"، ونحن هنا لسنا في صدد نقاش هذا الفهم البعيد عن الدقة والموضوعية، فالاعتراف بالشعوب يعني أولًا، وقبل كل شيء، الاعتراف بحقوقها وحرّيتها، ولا يكون بأن يحدد لها الآخرون ممثليها.
بعد اتفاق أوسلو عادت الأمور إلى نقطة البداية، بذريعة عدم وجود شريك فلسطيني مؤهل تقبل (إسرائيل) التفاوض معه، وهو ما حدث مع ياسر عرفات وانتهى باغتياله، وتكرّر الموقف ذاته مع محمود عبّاس، وتوقفت المفاوضات لإفساح المجال أمام توسيع الاستيطان، على الرغم من إعادة إنتاج اتفاق أوسلو بشروط إسرائيلية - أمريكية جديدة، رهنت السلطة بجميع مقدّراتها لخدمة الأمن الإسرائيلي، ادّعاء ضرورة تأهيل الفلسطينيين للمشاركة في التسوية السياسية ليس أمرًا جديدًا، إذ كان همّ السياسة الصهيونية والغربية منذ برنامج النقاط العشر، عام 1974، حتى ما بعد اتفاق أوسلو، بانتزاع تنازلاتٍ متدرّجة منها، أدّت إلى تغيير كامل في أهدافها وبرامجها، وكثر الحديث حوله والعمل بموجبه في مرحلة ما بعد "أوسلو"، سعيًا إلى بناء "الفلسطيني الجديد" الذي يقبل رواية الاحتلال التاريخية.
كان من الممكن تغيير هذه المعادلة، والبناء على موقف الإجماع الفلسطيني في مواجهة صفقة القرن، لكن ذلك لم ينجح، إذ كان واضحًا أن ثمّة اتفاقًا على رفض صيغة التسوية التي جاءت بها الصفقة، ولكن لا يوجد اتفاق على برنامج العمل في مرحلة ما بعد إفشالها، فحين ظن بعضهم أن ذلك سيفتح طريقًا لمقاومة الاحتلال، وإنهاء الانقسام، والاتفاق على المشروع الوطني، اعتقدت قيادة السلطة أن تراجع صفقة القرن سيفتح أمامها الطريق من جديد للاندماج في التسوية السياسية حيث توقفت، بشروط الرباعية الدولية ذاتها.
مرة أخرى أضاعت السلطة الفلسطينية فرصة ذهبية بعد معركة القدس، فبدلًا من التركيز على وحدة الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية التي تجلّت خلال المواجهة، ووحّدت قضيته من جديد، واستثمار اهتمام المجتمع الدولي لفرض إرادة الشعب الفلسطيني؛ أعادت السلطة مراكمة الأخطاء السابقة ذاتها بشأن حكومة تقبل شروط الرباعية الدولية، منهية أي أمل في إنهاء الانقسام، بديلًا عن إطار قيادي موحد، وسمحت لعجلة التنسيق الأمني بالدوران من جديد، وألغت الانتخابات التي كانت قد وعدت بها، وترافق ذلك مع حالةٍ غير مسبوقة من قمع التظاهرات الشعبية، واعتقالات الناشطين.
باتت رهانات السلطة الفلسطينية واضحة تمامًا، وهي أساسًا لم تتخلَّ عنها يومًا، وإن كانت المحاليل الوريدية التي ضُخّت في شرايين السلطة قد عجّلت في تبيّن موقفها القديم الجديد، إذ استجابت لدعوات الهدوء، ورأت الوعود بإنعاش الاقتصاد الفلسطيني، عبر عودة المساعدات الأمريكية والأوروبية، كافيةً لإبقائها على قيد الحياة مدة أطول، ورأت أن إنعاش الاقتصاد، المترافق مع قبضة أمنية تكفل إجهاض المقاومة ضد الاحتلال، وتضمن أمن المستعمر، يمثل الصيغة المطلوبة لعبور المرحلة الحالية.
تدرك السلطة الفلسطينية أنها عاجزة عن الوصول إلى اتفاقٍ مع حكومة يترأسها نفتالي بينت، بسبب ضعف هذه الحكومة وطبيعة المشاركين فيها من عتاة المستوطنين، كما تدرك أن القضية الفلسطينية ليست على أولويات الإدارة الأمريكية في هذه المرحلة، وأن جل ما تسعى إليه هذه الإدارة والدول الأوروبية منع حدوث انفجار كبير يجبرها على تغيير أولوياتها الدولية، لذلك تكتفي بمزيج من الوعود السياسية والاقتصادية، أي أنها على استعدادٍ لأن تساهم في دفع ثمن هدوءٍ لا يعلم أحد متى سينتهي، وهو وضعٌ مواتٍ للإسرائيليين الذين يستغلون كل دقيقةٍ لتعزيز الاستيطان، والعبث داخل المجتمع الفلسطيني، وتجزئة الأرض الفلسطينية، وتحويلها إلى كانتونات منفصلة غير قابلة للحياة، بعيدًا عن المستعمر الصهيوني.
رهان السلطة الفلسطينية قائم، كما كان دومًا، على تلك السياسة الانتظارية التي لا تفعل شيئًا لحاضرها سوى المحافظة عليه كما هو، وتقديم التنازلات الضرورية لاستمرارها بالحد الأدنى، وفي الوقت ذاته المراهنة على متغيرات المستقبل، وهي في هذه الحالة تعني انتظار يائير لابيد ليصبح رئيسًا للحكومة الإسرائيلية في النصف الثاني من ولايتها بموجب الاتفاق بين بينت ولابيد، على أمل أن يتمكّن الأخير من العودة إلى المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. وبناءً على هذا الرهان عقدت لقاءاتٌ عدة بين مقرّبين من بينت وفاعلين في السلطة الفلسطينية وقريبين منها، برعاية أوروبية وأمريكية، في فلسطين وعواصم أوروبية، في محاولةٍ للاتفاق على قواسم مشتركة بين الطرفين قد تمهد الطريق لمرحلة لابيد.
الأنباء التي تسرّبت عن هذه اللقاءات التي حظيت بمباركة الرئيس محمود عباس وتشجيعه أفادت أن فريق لابيد أعلن بوضوح عدم قدرة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يقودها قائد المستوطنين على وقف الاستيطان أو تجميده، وعلى الفور، ربما بعد إعجاب المجموعة الفلسطينية بصدق فريق لابيد وصراحته، تُجووِز موضوع الاستيطان إلى البحث في الكيفية التي يمكن للحكومة الإسرائيلية الحالية أن تقدّم المساعدة للسلطة الفلسطينية في الوضع الحالي، والبدء في استشراف أفق مرحلة لابيد بعد عامين، لم تتجاوز مطالب الوفد الفلسطيني نقاطًا مثل: العمل على تخفيف حدّة الاحتكاك في القدس والمناطق الملتهبة بالاشتباكات بين المواطنين الفلسطينيين والمستوطنين، وطلب تغيير تصنيف بعض المناطق المحدودة من ج إلى ب، ومن ب إلى أ، وهي مناطق لا تؤثر في حركة الاستيطان والأمن الصهيوني، لتسجل ذلك أنه إنجاز للسلطة، وبداية لتحريك الوضع السياسي، ومطالب أخرى تتعلق بتحفيز الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية، وتخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة، وتخفيف الشروط المتعلقة بتشكيل الحكومة الفلسطينية، على اعتبار أن ذلك سيشكل مدخلًا لإدارة الانقسام، ويتيح للسلطة التفاهم مع سلطة حركة حماس على ضبط قرارَي الحرب والسلم.
بات رهان السلطة الحالي منصبًّا على انتظار ولاية لابيد بعد عامين، لعل الولايات المتحدة تكون حينها قد تمكّنت من حل الملفات العالقة على الساحة الدولية، وبدأت تتجه أكثر فأكثر نحو المنطقة العربية، ويتزامن ذلك مع محاولة تعويم الوضع الاقتصادي، وترتيب أوضاع حركة فتح بما يلائمها بعقد مؤتمر جديد، واستمرار الاحتفاظ بمنظمة التحرير في ثلاجة الموتى، وتشديد القبضة الأمنية، وازدياد سطوتها على معالم الحياة في المناطق المحتلة كلها، وهو رهانٌ خاسر، لأن جميع معطياته لا تتعلق ببناء الوضع الفلسطيني وتغييره، وزيادة نقاط القوة فيه، وتلافي نقاط الضعف، كما أنه لا يدرك ما ستكون عليه الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني بعد عامين، بل من يضمن مجيء لابيد؟! والحكومة الحالية لا أحد يضمن بقاءها يومًا، وهل سيختلف لابيد عن بينت، شريكه في الحكومة، وعن نتنياهو وباراك وغيرهما؟! هو رهان يسلم جميع مقدّرات الشعب الفلسطيني إلى العدو، ويبشّر بهيمنة صهيونية أمنية كاملة على السلطة الفلسطينية، وإن بدا بعض النشاط في المحافل الدولية للتذكير بأن ثمّة حقوقًا فلسطينية ينتهكها عدو، لكن من دون السعي إلى انتزاعها.