لم يعد الحديث عن تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية، عبر الولايات المتحدة، مجرّد أخبار تناقلتها الصحافة الأميركية أو تسريبات على وسائل الإعلام الإسرائيلية، بعد أن صرّح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في مقابلة تلفزيونية مع "فوكس نيوز"، بأن هذه المباحثات "تتقدّم يومًا بعد يوم"، وبعد أن حفل لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بنقاش تطوّراتها، في محاولة لتذليل العقبات التي تعترضها، فلم تعد مسألة التطبيع مجرّد تكهناتٍ تحتمل الصواب أو الخطأ، وإنما مسألة مطروحة بجدّية على بساط البحث.
تجاوزت مسألة التطبيع على المستوى الرسمي بعديْها الأخلاقي والمعنوي، وقياساتها بمفاهيم العدالة والتمسّك بالرواية التاريخية، والجدل يدور حول الصعوبات التي تعترض طريقها، وسبل تذليلها، معتمدا على حسابات التكيّف مع الواقع الراهن المستندة إلى الربح والخسارة والمصالح الآنية. كما أن المدى الزمني لإنجاز الاتفاق لا يزال موضع خلاف المحلّلين؛ بين من يعتبره قاب قوسين أو أدنى، ولا ينقصُه غير تفاصيل صغيرة، ومن يؤجّله إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، ومن يحذّر من المماطلة التي ستعني تفويت الفرصة وتعثّر المشروع، في منطقة، بل في عالم مضطرب، يحمل كل يوم جديدا، وربّ حدث صغير يحمل، في طياته، متغيّرات كبرى تقلب موازين سادت.
الولايات المتحدة وإدارة بايدن أول الرابحين، هم أصحاب الفكرة والعاملون عليها والساعون إلى نجاحها، ولعل أهم ما يفسر الحرص الأميركي على إنجاح التطبيع السعودي – الإسرائيلي رغبة الولايات المتحدة في هندسة السياسة الإسرائيلية، التي تراجعت في ظل حكومة نتنياهو، إنقاذًا (لإسرائيل) من نفسها، وكي تحافظ على دورها بوصفها اللاعب الأقوى في المنطقة. يضاف إلى ذلك قلق إدارة بايدن من انفتاح السياسة السعودية على الصين وروسيا وإيران، وانضمامها إلى تجمع بريكس، وموقفها في منظّمة أوبك، وتحكّمها في إنتاج النفط وتحديد أسعاره وسلسلة توريده، ورغبتها في التأثير في هذه المسارات وتعديلها وفقًا للمصالح الأميركية.
اقرأ أيضًا: التطبيع الإسرائيلي السعودي.. الثمن والتداعيات
اقرأ أيضًا: الانقلاب القانوني وتطبيع السعودية.. أي علاقة؟
الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات الرئاسية، وهي تشهد تنافسًا حادًا بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما هو بين المرشحين في كل حزب. وعادة ما يتجنب الرئيس اتخاذ قرارات كبرى في عام الانتخابات، خشية حدوث إخفاقاتٍ تؤثر في نتيجتها. من هنا جاء إصرار بايدن على نجاح التطبيع الذي قد يوفّر له جسر عبور لبقائه في البيت الأبيض فترة رئاسية ثانية، ويقف أمام ذلك عاملان؛ أولهما نجاحه في تأمين ثلثي أصوات مجلس الشيوخ الأميركي اللازمة للموافقة على الطلب السعودي الخاص بالمعاهدة الدفاعية، والثاني مدى رغبة محمد بن سلمان في أن يصبح لاعبًا في الانتخابات الأميركية من خلال تمرير الاتفاق قبل الانتخابات أو المماطلة به إلى ما بعدها، وهي رغبة تتحكّم فيها الضغوط التي تمارَس، والتاريخ السابق للعلاقة غير الودّية مع الحزب الديمقراطي وجو بايدن، وموقف الدولة العميقة في الولايات المتحدة ومدى رغبتها في تنفيذ الاتفاق في عام الانتخابات.
يسعى اتفاق التطبيع إلى تحقيق أهداف رئيسة للولايات المتحدة، والتي إذا ما تحقّقت في عهد بايدن، قد تشكّل الجائزة الذهبية التي تبقيه في البيت الأبيض، وأهم هذه الأهداف استعادة السعودية إلى دائرة النفوذ الأميركي الكامل، بعد أن شهدت السياسة السعودية انفتاحًا سياسيًا واقتصاديًا على الصين وروسيا، ومشاركةً في قمّة "بريكس"، وتطبيع العلاقة مع إيران، واتباع سياسة نفطية مستقلة تتعلق بحجم الإنتاج وسعر برميل النفط، إذ سيكون من نتائج الاتفاق تراجع علاقات السعودية مع إيران، وإرباك علاقتها الاقتصادية والسياسية مع روسيا والصين، وسيتبع الاتفاق اتساع نطاق التطبيع إلى دول إسلامية آسيوية، مثل ماليزيا وإندونيسيا وباكستان، وهو ما سيعزّز النفوذ الأميركي في آسيا، وسيضمن تقدّم مشروع الممرّ الأخضر الذي يربط آسيا عبر الهند بأوروبا، ويمرّ في أراضي السعودية وإسرائيل، ويشكّل بديلًا من المشروع الصيني، ويستثني مساره تركيا وإيران. الهدف الثاني للرغبة الأميركية الملحّة في إنجاز اتفاق التطبيع إعادة رسم صورة الكيان الصهيوني في العالم، بعد أن عصفت بها الحكومة اليمينية وتعديلاتها القضائية التي هدّدت ديمقراطية إسرائيل المزعومة، وأضحت مثالًا على دولة التمييز العنصري.
تسعى الإدارة الأميركية إلى إقناع نتنياهو بالاتفاق وفوائده الجمّة التي تنعكس عليه، بما فيها إنقاذ حكومته من الانهيار، فيما لو انسحبت منها كتل المستوطنين نتيجة التنازلات اللفظية التي يمكن أن تقدّمها الحكومة الإسرائيلية للفلسطينيين ضمن الاتفاق، علمًا أن ثمّة ما يشبه الإجماع لدى مختلف الكتل السياسية الصهيونية على رفض فكرة حلّ الدولتين، وما يجري النقاش والخلاف حوله هو مقدار التحسينات التي يمكن أن تطرأ على معيشة الفلسطينيين تحت الاحتلال. ولا يخلو الأمر هنا من التعقيد أيضًا، فإذا كان الوزيران في حكومة الاحتلال، سموتريش وبن غفير، يرفضان تقديم أي شيء للفلسطينيين مهما كان محدودًا، ويشوّهان صورة (إسرائيل) الديمقراطية المزعومة، بما فيها الديمقراطية داخل المجتمع اليهودي نفسه، فإن لبيد وغانتس في المعارضة، وهما لا يؤيدان بأي حال قيام دولة فلسطينية، قد يقدّما وعدًا يتعلق بتحسين ظروف الحياة اليومية للفلسطينيين. وكما تعوّدنا، لا تتحقق معظم الوعود أو لا تستمر، ويتم النكوص عنها سريعًا. وفي المقابل، للمذكورين موقف متشدّد تجاه مطالب السعودية النووية، وتلك المتعلقة بتزويد الرياض بالسلاح الأميركي المتطور وبالمعاهدة الدفاعية مع الولايات المتحدة.
يريد بايدن إعادة تسويق (إسرائيل) عالميًا، وجعلها الدولة الأقوى في المنطقة، كجزء من رؤيته للحفاظ على المصالح الأميركية، مع أن التجربة التاريخية تفيدنا بأن (إسرائيل) لم تقدّم أي دعم ميداني لتلك المصالح، بل شكّلت عبئا عليها، وقد برز هذا في حربي الخليج (1991، 2003) حين مُنعت من التدخّل، وفي حرب أكتوبر (1973)، حيث لم تقوَ على الوقوف على قدميها لولا الجسر الجوي الأميركي، واقتصر دورها تاريخيًا على كونها فزّاعة تخيف الأنظمة الضعيفة.
وهنا، يثور سؤال محوري بشأن حرص إدارة بايدن على ربط العلاقات السعودية - الأميركية بتطبيع العلاقات السعودية - الإسرائيلية، وربط الموافقة على المشروع النووي السعودي بالموافقة الإسرائيلية على بنية المشروع وحدوده وسبل الرقابة عليه، وكذلك حال طلبات الأسلحة ومدى تقدمها التقني. لماذا لا يتم هذا باتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة من دون إقحام إسرائيل به، انطلاقًا من المصالح الأميركية وتقاطعها مع المصالح السعودية، وبمعزل عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟ وما الذي يحشُر أنف إ(إسرائيل) في اتفاق يفترض أنه اتفاق سعودي أميركي؟ الإجابة الوحيدة الممكنة هي التي تلاحظ تشابك المصالح الأميركية – الإسرائيلية، وهي ظاهرة ممتدّة منذ تأسيس الكيان، ما يجعل من أي وعدٍ أو ضمان أميركي سرابًا في سراب، ولا قيمة عملية له، واسألوا السلطة الفلسطينية والدول التي أبرمت اتفاقات مع (إسرائيل) أو طبّعت معها، إن كنتم لا تعلمون.