ليس من نافلة القول أن اتفاق وقف إطلاق النار هش، وأن تثبيته مرتبط برزمة من الشروط والملفات المعقدة. ففي الحقيبة الفلسطينية ثلاثة ملفات هي إعادة الإعمار والتزام تفاهمات 2018 ووقف الاستفزازات في القدس. أما الحقيبة الإسرائيلية فتحتوي على ثلاثة ملفات مقابلة، هي الجنود الأسرى لدى المقاومة والسيطرة على آليات الإعمار، ومراجعة تفاهمات 2018.
ومن الواضح أن ملفات المقاومة هي على النقيض من ملفات الاحتلال، وهذا يعكس طبيعة العلاقة بين الطرفين، فهي عداء لا صداقة فيه، وتناقض لا شراكة معه. وهنا تظهر الأسئلة المتداخلة التي تفرض نفسها: من يستطيع أن يفرض إرادته على الآخر؟ وإلى أي حد يمكن كسر الطرف الآخر؟ ومتى نتوقع ذلك؟
لا شك أن ما حققته المقاومة خلال السنوات الأخيرة من ضغط مباشر على الاحتلال قد أوصله إلى قناعة بأنها قادرة على المزيد. فتفاهمات 2018 التي شملت إدخال المنحة القطرية بحقائب يحملها ضباط الاحتلال إلى غزة قد جاءت بعد جولة ضغط شاملة من خلال مسيرات العودة وكسر الحصار، والتي تخللها عدة جولات تصعيد عسكري أجبرت الاحتلال على تغيير تحالفاته الحكومية الداخلية من أجل المضي في التزاماتها مع المقاومة الفلسطينية، ولعل أبرزها هو استقالة وزير جيش الاحتلال "ليبرمان" في نوفمبر 2018 احتجاجًا على قبول رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو" لاتفاق وقف إطلاق النار بعد جولة قتال استمرت ليومين، أطلقت فيهما المقاومة 460 صاروخًا، استهدفت المستوطنات والمواقف العسكرية الإسرائيلية فيما عرف بعملية "حد السيف".
والنموذج السابق يعكس إرادة المقاومة واستعدادها لدفع ثمن تحقيق شروطها، وقدرتها على فرض قواعد اشتباكها في اللحظة المناسبة لإجبار الاحتلال على القبول بما لم يكُن يريد سماعه. ولعل ما قاله نتنياهو عقب عملية "حد السيف" يعكس فلسفة العدو عندما يضطر للنزول عن الشجرة، حين قال: "في وقت الطوارئ، عندما نتخذ قرارات حيوية للأمن، لا يمكن للرأي العام دومًا أن يكون مطلعًا على الاعتبارات التي يجب ألا يطلع عليها العدو".
ومن الموضوعية أن نقول إن خروج كل طرف بما يعتبره إنجازًا هو أساس لنجاح أي تفاهمات. فأن يعتبر الاحتلال أن ضمان وقف المقاومة للقصف أو عدم اجتياز السياج من قبل المتظاهرين أو وقف البالونات الحارقة؛ هو تحقيق لأمنه واستعادة للحياة الطبيعية لمواطنيه، فهذا لا يتعارض مع اعتبار المقاومة أنها استطاعت تحقيق معادلة الردع رغم ضعف قوتها المادية، وأجبرته على كسر حصاره الاقتصادي على غزة، وبالتالي يتم تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية للفلسطينيين؛ دون المساس بالثوابت الوطنية أو تقديم اعتراف بشرعية الاحتلال. ومع ذلك فإن الجميع يدرك أن وقف إطلاق النار يتبعه مرحلة استعداد جديدة لجولة قادمة لا أحد يمكنه توقع وقتها!
إن تجربة أسر شاليط لخمس سنوات تأخذنا إلى فهم صريح لموقف المقاومة من صفقة التبادل، فهي بعد سبع سنوات من احتفاظها بجنود الاحتلال الأسرى قادرة على تحقيق مبدئها في الفصل بين الصفقة وأي ملف آخر، وهي لا تزال تؤكد أنه لا ربط بين صفقة التبادل وأي إجراءات اقتصادية وإنسانية أو إعادة الإعمار، وأن ثمن حرية الجنود الأسرى هو حرية الأسرى الفلسطينيين فقط. وأن إفصاح المقاومة عن طبيعة ما لديها من الأسرى الجنود لا بد أن يقابله ثمن، وهي مرحلة لابد أن تسبق المفاوضات العميقة على عدد ونوعية الأسرى الفلسطينيين الذين ستشملهم الصفقة.
وإذا كان من يدير الملف هم أسرى تحرروا عبر صفقة وفاء الأحرار 2011، فهذا يعني أنهم يدركون واجبهم والتزامهم تجاه شركاء الزنزانة بتحريرهم مهما كلف ذلك من ثمن. وفي المقابل فإن الاحتلال لا يملك أوراق قوة أمام الوسطاء، لربط ملفي صفقة التبادل والإعمار معًا.
ورغم أن تفاهمات 2018 قد جاءت في سياقات أمنية وسياسية معينة، فهي تعكس قناعات لدى المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بأن الضغط الاقتصادي والإنساني على غزة سيقابله تصعيد سيهدد أمن (إسرائيل)، ولعل معركة "سيف القدس" قد عززت القول بأنه لا حصار على غزة يمكنه منع تطوير المقاومة لقوتها العسكرية، رغم تأثيره في بعض الجوانب التقنية.
إن تثبيت وقف إطلاق النار هو إرادة تتجاوز مغامرات حكومة بينت-لبيد، وإن شعار وزير الجيش "غانتس": "ما سيكون ليس كما كان"، بحاجة لمراجعة وتدقيق في مقابل رسالة المقاومة للاحتلال: "إن عدتم عدنا، وإن زدتم زدنا". ولعل القناعة لدى جميع الوسطاء بأن تطبيق آلية إعادة الإعمار GRM 2014 غير قابلة للتطبيق، والعوائق المباشرة أمام طرح بدائل لتطبيق تفاهمات 2018؛ يعني أن المقاومة استطاعت تحسين بيئتها الاستراتيجية، وإجبار الجميع على تعديل استراتيجياتهم في التعامل مع المقاومة، وإعادة تقييم قدرتها على التأثير في الجغرافيا السياسية والأمنية والمبادرة في التوقيت المحلي والإقليمي.