لم تكن انتفاضة "الشيخ جرّاح" التي شملت عموم الوطن الفلسطيني، من عكا إلى النقب، مرورًا بمدن فلسطين التاريخية، حيفا ويافا والرملة واللدّ والجليل والمثلث، والضفة الغربية قاطبة، مع مقاومة غزّة الإعجازية، وتظاهرات الشتات الفلسطيني في دول الجوار، وما رافقها من تضامن عالمي قلّ نظيره منذ نشوء المأساة الفلسطينية التي تمثلت في حملات التطهير العرقي المنظّم (النكبة) التي قادتها العصابات الصهيونية قبل 73 عامًا؛ لم تكن هي الدافع المباشر لكي تدعو عدّة حراكات وطنية، وشخصيات عديدة في الداخل والخارج، إلى طيّ صفحة اتفاق أوسلو، الذي يكاد أو كاد يخنق الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية التي لم يبقَ للتحرير مكان فيها سوى في اسمها الذي يُذكّر بأنّها انطلقت أو أُسست لأجله.
"أوسلو" نتج من تكتيكٍ فلسطيني أُطلق عليه في سبعينيات القرن الماضي "البرنامج السياسي المرحلي"، ووُقِّع عام 1993 (اتفاق أوسلو) بين حكومة الاحتلال ومنظمة التحرير في واشنطن، وصلاحيته (وفق نصه) خمس سنوات لا أكثر، وانتهى نهايةً دراماتيكية بالفعل، عقب فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام 2000 مع اشتعال انتفاضة الأقصى المسلحة، ومدّدت له الإدارة الأميركية، والرباعية الدولية، بوضع "خريطة طريق" كان يجب أن تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية عام 2005، لكنّ ذلك لم يحصل، وبدلًا منه استمرّت الآليات الأمنية المعروفة بخطة جورج تينيت، التي نتجت عام 2001، في إطار مؤتمر شرم الشيخ، لمنع العمل الفدائي الفلسطيني ضد جيش الاحتلال ومستوطنيه.
وإذا قيّمنا ما بقي من الاتفاق اليوم؛ فلن نجد سوى التنسيق الأمني واتفاق باريس الاقتصادي الذي يشاء له بعضهم راضيًا أو مكرهًا أن يؤبّد، ويصبح المرجع المعتمد والنهائي للكفاح الفلسطيني الرسمي بقيادة منظمة التحرير، وبالتالي مرجعًا للقضية الفلسطينية، فقد أصبح اتفاق أوسلو خريطة الطريق المعتمدة دوليًّا لحلّ ما أصبحت تسميه حاليًّا الدول الغربية، وأغلب الدول العربية "النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي"، وعلى الرغم من فشله ما زال يُطلب من الفلسطيني التزام بنوده، مع أنّه لا يصلح وفق صياغته لأن يكون حلًّا، فوفق قراءةٍ دقيقة، وكذلك تصريحات مهندسيه أنفسهم، لم يتضمن الاتفاق أيّ بندٍ ينص على إنهاء الاحتلال أو إنهاء الاستيطان أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما أشار إليه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير السابق، ياسر عبد ربه، في الفيلم الوثائقي "ثمن أوسلو".
اعتماد نصوص "أوسلو" المجافية للحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرّف، مسارًا لحلّ الصراع الفلسطيني الصهيوني بالتمسّك بالاتفاق واستدامة بقائه؛ أمر غير منطقي، إذ يُعدُّ، في جوهره، التفافًا على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وتقزيمًا لها، ومع أنّ الكاتب لا ينكر هنا أنّ الاتفاق خدم في مراحله الأولى (والحق يقال) ما تبين أنّه أحد أهداف ياسر عرفات، وبعض حركة "فتح" منه، عودة ما يقارب ربع مليون فلسطيني من الشتات إلى الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلّين، وعودة قوات الثورة الفلسطينية من الخارج إلى الداخل، كذلك استخدمه عرفات صاحب الشخصية المركبة والكاريزماتية التي تخفي أكثر مما تبدي، لتهريب السلاح وتخزينه وتدريب المقاتلين، ثم اختبر إستراتيجيته في نقل النضال المسلح من الخارج إلى الداخل في حدثين كبيرين مهمين ومفصليين: هبّة النفق (1996) وانتفاضة الأقصى (2000 - 2005) المسلحتين، ومن فوائده على الصعيد السياسي أنّه برهن للعرب والعالم عدم رغبة الصهاينة في السلام، بل أثبت أنّ كلّ ما سعوا ويسعون إليه من هذه الاتفاقيات استسلام فلسطيني، مقابل حكم ذاتي ذي صلاحياتٍ محدودة، لا دولة فلسطينية، التي إن تحققت اسمًا فلن تشكل كيانًا قابلًا للحياة إلّا بالاعتماد على الاقتصاد الصهيوني والتبعية الأمنية له.
ومن فضائل انتفاضة الأقصى التي جاءت، بشكل أو بآخر، نتيجة "أوسلو"؛ إنهاء الوجود الصهيوني المسلح في قطاع غزة، وهي إحدى النتائج الإستراتيجية التي أحدثت ظروفًا نضالية جديدة، سمحت للعمل الفلسطيني المسلح بالتطور، فشاهدناه في عدة معارك بين قوات الاحتلال والحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية (حروب غزّة المتكرّرة)، التي أوجزها أخيرًا قائد "حماس" في قطاع غزة، يحيى السنوار، في مقابلة له بالقول: "المقاومة الفلسطينية وما تمتلكه من سلاح اليوم هي استكمال للنهج الذي اعتمده أبو عمار في الكفاح المسلح".
على الصعيد السياسي فشل اتفاق أوسلو، وأصبح عبئًا ثقيلًا على العمل الوطني الرسمي الفلسطيني، ليس وفق تقييمنا نحن فقط، بل وفق تقييم أحد أهم صانعيه، ياسر عبد ربه، الذي قال قبل عام 2015: "الخطة السياسية منذ اتفاقية أوسلو حتى الآن فشلت فشلًا ذريعًا وتامًّا، والرهان على المفاوضات سبيلًا وحيدًا لإنهاء الاحتلال انهار كليًّا، والاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير و(إسرائيل) لم يكن متوازنًا، لأنّه اعتراف بحق (إسرائيل) في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بالمنظمة ممثلًا للشعب الفلسطيني"، وهو اتفاقٌ غير قابل للترميم وفقًا لرأي عبد ربه، وعليه: "من غير المفيد أبدًا محاولة ترميم ما تمزّق وسقط عبر الركض وراء مشروع جديد في مجلس الأمن"، ويعد اعتراف قيادة الشعب الفلسطيني قانونيًّا أخطر من وعد بلفور وأخطر من خطة ترامب، فهو الاعتراف القانوني الوحيد الذي يمكن أن يستند إليه الصهاينة لتسويغ مواصلة احتلالهم، فهو اعتراف من مالك الأرض بحق الغريب المستوطن الإحلالي في امتلاك 78% من الوطن الفلسطيني، وليس من قوةٍ غريبةٍ أخرى، كبريطانيا والولايات المتحدة.
وللتذكير جاء مشروع أوسلو في سياق ما سمي البرنامج السياسي المرحلي الذي بدأت إرهاصاته عام 1974؛ مشروع "النقاط العشر" الذي صيغ وفقًا لنصائح سوفييتية وعربية للتعاطي مع تفاهمات وزيري الخارجية، الأميركي كيسنجر، والروسي غروميكو، الممهدة لمؤتمر جنيف (1973) كي يكون للفلسطينيين تمثيل فيه، إذ كان من المزمع الدعوة إليه لحلّ الصراع العربي الصهيوني بناءً على نتائج حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، العربية – الصهيونية، لكن ما انتهى إليه هذا التكتيك عربيًّا وفلسطينيًّا أدّى إلى نهاياتٍ كارثيةٍ على صعيد الأمن القومي العربي، وقيمة القضية الفلسطينية قضيةً مركزية وقضية كرامة عربية، فقد أضعفت الاتفاقيات الانفرادية مكانة القضية الفلسطينية، وفتّتت جبهة العرب التي اتّحدت في تلك الحرب كما لم تكن من قبل، ومنحت الكيان الصهيوني شرعية البقاء والاستمرار، وهذه المرة باعترافاتٍ وتحالفاتٍ عربيةٍ مستترة.
وإذا كان اتفاق أوسلو قد استنفد الغرض، أو الغاية التي أرادها بعضٌ فلسطيني منه؛ فإنّ بقاءه واستمراره بالاعتراف بحق (إسرائيل) بالوجود، كيانًا عنصريًّا استعماريًّا استعلائيًّا إجراميًّا، لهو أمر لا يغتفر، ويصبح الاستمرار فيه، من دون هدف، مصيدة صهيونية تُكبّل الكفاح الوطني الفلسطيني، وتُعزز الانقسام واختلاف الرؤى وتعدّد البرامج الكفاحية للشعب الفلسطيني وقواه المناضلة، وهو كذلك تشتيتٌ للجهود وإضعافٌ لقيمة القضية الفلسطينية عربيًّا ودوليًّا، فما بقي منه، إضافةً إلى الاعتراف المجاني المنافي للحق الفلسطيني: التنسيق الأمني (غير المقدّس)، واتفاقية باريس الاقتصادية (تكرّس التبعية)، وهما يكمل أحدهما الآخر؛ يخدم الأول حماية أمن الصهاينة جنودًا وحدودًا ومستوطنين، مقابل تسليم عوائد المقاصّة المالية والسماح الصهيوني للسلطة بجباية الضرائب داخل مناطق سيطرتها؛ أي المنطقتين "أ" و"ب"، وهي الأموال اللازمة لتمويل المؤسسات ورواتب الموظفين في القطاع العام.
صحيح أن هناك عوائق لعدم إلغاء الاتفاق، منها عدم القدرة على توفير المال البديل عربيًّا للاستمرار، بعدما فشلت السلطة الفلسطينية عدّة مراتٍ في تأمين مظلةٍ مالية عربية، بعيدًا عن الابتزاز الصهيوني، لكن هذا العائق على أهميته، الذي يضع السلطة واستمرارها في مقابل تحرير الأرض والوطن؛ سيظلّ إستراتيجيةً ضارّة، بل مدمرة للهدف الأول الذي انطلقت من أجله الثورة الفلسطينية المعاصرة: تحرير الأرض وعودة اللاجئين إلى ديارهم؛ فقد تحوّلت السلطة مع الزمن، بوعي أو من دون وعي، إلى جسمٍ تابع للاحتلال، فمصيرها وبقاؤها مرتبطان بفعلها الأمني المُحبط لأيّ عمل مقاوم ضدّ الوجود الاحتلالي، وهي معادلةٌ مؤلمةٌ للكلّ الوطني الفلسطيني، ويجب ألّا تستمر، إذ وصفتها عضو تنفيذية منظمة التحرير المستقيلة، حنان عشراوي، بأنّها كارثة، تجعل من هم تحت الاحتلال يحمون أمن مُحتليهم، الأمر الذي لم يحصل لشعبٍ آخر في أيّ زمان ومكان.
لذلك كله آن الأوان لـ"أوسلو" أن ينتهي، وتطوى صفحته كي تعود المنظمة إلى منطلقاتها الأولى، وهي منطلقات سليمة، وليصبح النضال من أجل فلسطين كاملةً هدفًا، فإذا كان هدف "أوسلو" إنشاء سلطة وطنية على أيّ جزءٍ حُرّر، فقد أنجز الهدف، وإذا كان ذلك هدفًا مرحليًّا فقط، فقد تحقق.
يقترب الشعب الفلسطيني اليوم من أربعة عشر مليونًا في الوطن وفي الشتات، وهناك سبعة ملايين نسمة في مساحة "فلسطين من النهر إلى البحر"، ويخضع جميعه للاحتلال، ويعاني القهر نفسه، وهو مع كلّ هبّة أو انتفاضة يتكاتف ويتكامل، غير آبهٍ لتقسيمات "أوسلو" أو تقسيمات الاحتلال المناطقية السياسية، وإذا أصبح هدف نضال فلسطينيي الداخل المحتل -وفق ما تبع "أوسلو"- المساواة والعدالة ضمن (دولة إسرائيل)، أو الحصول على حكم ذاتي لما يطلق عليه صهيونيًّا "الوسط العربي" كما يسعى إليه بعضهم؛ فإنّ رغبة الأغلبية منهم كما أظهرت الأحداث، بعيدًا عن ممثليهم في الكنيست، التكامل مع أبناء شعبهم في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، لا تكامل في دولةٍ مستقلة بجوار (إسرائيل) بل محلّ (إسرائيل) نفسها، ولا يعني ذلك إزالتها، بل الخلاص من صهيونيتها التي تعني عنصريتها وفصلها العنصري Apartheid وتطهيرها العرقي Genocide، وغيرها من قوانين وممارسات تُعد في عرف القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية.
مطلب "فلسطين كاملة" وهدفها هو المطلب الوحيد القابل للتطبيق والحياة، على عكس مشروع حلّ الدولتين الذي قال مسؤولون أمريكيون ودوليون، حتى صهاينة، إنّه أصبح غير قابل للتطبيق، بفعل الاستيطان المنتشر في كلّ مناطق الضفة الغربية، ما جعل واقع الفلسطينيين في مناطق عام 1948 لا يختلف كثيرًا عن واقع الفلسطينيين في مناطق 1967، فكلاهما محاط بالمستوطنات والمستوطنين، بفارق بسيط متعلق بحرية الحركة والجنسية وبعض التمييز الاقتصادي في الداخل عن مناطق الضفة وغزة.
"فلسطين كاملة" ليس شعارًا، بل أضحى هدفًا وخيارًا، لذلك، يُمثّل الاستمرار في جغرافية أوسلو ونهجه العائق الوحيد لإطلاق حملة نضالية عالمية لإنهاء الصهيونية أيديولوجيا عنصرية استعمارية، وصنع سلام حقيقي في دولة على كامل تراب فلسطين يعيش فيها كلّ من فيها، ضمن حقوق متساوية في العدالة والاقتصاد بلا تمييز عنصري أو ديني أو قومي، لم يعد هناك خيار آخر، إلا لمن راقته ملاحقة الأوهام تلو الأوهام، التي تثير انقساماتٍ واتهاماتٍ لن تنتهي إلا بتخطّي "أوسلو" إلى آفاق نضالية أرحب وأكثر جدوى.