من المؤكد أن السعودية تسعى إلى تضييق المجال أمام "ما تراه خيارات إستراتيجية إيرانية" في المنطقة، وإن طموحًا سعوديًّا بالتحول إلى دولة محورية في الشرق الأوسط قد يتعزز بهذه الصفقات العسكرية، لكن نود التذكير بأن الاتحاد السوفييتي كان ثاني قوة عسكرية في العالم، غير أن البنية الداخلية كانت هي الحاكمة لمصيره، وأن شاه إيران كان أحد أعمدة المنطقة، لكن الوضع الداخلي حسم الأمر معه بوضوح، ومن هنا إن السياسة السعودية ستواجه عقبات عدة في طموح تسعى إليه دول أخرى:
كيف ستوفق السعودية بين ضغوط أمريكية لمزيد من الإنفاق العسكري، وتراجع الدخل السعودي من مبيعات البترول المورد المركزي للاقتصاد السعودي؟
كيف ستوفق السعودية بين "طموح إقليمي يتوارى وراء صفقات سلاح"، وحزام فقر اقتصادي إقليمي يحيط بها في كل من مصر واليمن والأردن والعراق، وقد يُلقي بظلاله عليها؟
هل ستستفيد السعودية من هذه الصفقة في عرقلة التقدم في مسار تطبيق قانون (جاستا) الذي أقره (الكونجرس) الأمريكي؟
من جهة أخرى من الواضح أن السعودية تحاول استكمال مقومات الطموح الإقليمي ببعض الخطوات الإجرائية مع الدول الكبرى الأخرى:
التوافق مع الروس على الاستمرار في سياسات الإنتاج النفطي، لضمان استقرار الأسعار النفطية ومنع تدهورها.
استمرار تصدرها قائمة موردي النفط ومستوردي السلع مع الاقتصاد الصيني.
من الواضح أن توجهات الرئيس الفرنسي ماكرون ستجعل الحركة الديبلوماسية السعودية أكثر "براحًا"، فهل ستكتمل هذه التوجهات الخليجية بوجه عام بنوع من الضغوط الناعمة على السلطة الفلسطينية، في مقدمة لتعديل المبادرة العربية، لاسيّما في موضوع اللاجئين، والحدود، والطبيعة القانونية لأي كيان سياسي فلسطيني مقترح، فضلًا عن عملية التطبيع العربي مع الكيان العبري؟، وهذا أمر يجب التعامل معه بجدية.
رابعًا: البعد الغائب في المرحلة الثانية:
تمثلت المرحلة الثانية في انتقال ترامب مباشرة من السعودية إلى أراضي الـ(48)، وزيارته إلى حائط البراق، وتأكيده في خطاباته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو العلاقة الإستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، والتزامه بأمن الكيان، ثم لقائه رئيس السلطة محمود عباس.
ويمكن الإشارة إلى عدد من النقاط التي تستحق التأمل في هذه المرحلة من الجولة:
1. خلت تصريحات ترامب من أي التزام محدد بخصوص الإطار الذي ستجرى فيه التسوية التي يأملها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهو ملتزم بـ"السلام" دون تحديد لإطاره الدولي (قرارات الأمم المتحدة، أو قرارات اللجنة الرباعية، أو المبادرة العربية)، أو إطاره الأمريكي المعلن من الإدارات السابقة (قيام دولة فلسطينية منذ قبول الرئيس بوش بها).
2. خلافًا للموقف الأمريكي المعلن من الاستيطان والاحتلال إن ترامب تجنب الإشارة إلى أي موضوع من موضوعات القضية الفلسطينية سوى الدعوة "للسلام"، بلغة إنشائية تغطي على الرغبة في التملص من أي التزام أمريكي سابق.
3. يلحظ أن موضوع نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس بقي في الظل، ومع بالونات الاختبار التي أطلقها الإسرائيليون قبيل وصول ترامب الموضوع بقي في نطاق "سيناريو المراوغة"، الذي أشرنا إليه في تقدير إستراتيجي سابق صادر عن مركز الزيتونة.
خامسًا: التداعيات المستقبلية:
مع الإقرار بأن المؤسسات السياسية في النظام السياسي الأمريكي أقوى من الفرد يبقى دور الفرد له وزنه في سياق تفاعلات المؤسسات مع البيئة المحلية والإقليمية والدولية، وعليه لابدّ من التوقف عند شخصية ترامب لوضعها في الحسبان، عند محاولة فهم سياسته وتداعياتها المستقبلية وكيفية التعامل معه:
شخصية ترامب:
ما يلفت النظر أن الرئيس الحالي ترامب حظي بقدر غير معتاد من الحوارات عن "بنيته النفسية" أو السيكولوجية، وهو أمر لم تعرفه الرئاسات السابقة بهذه الحدة وهذا التوسع في المناقشة، وحملت عشرات الصحف الأمريكية وبعض المجلات المتخصصة حوارات في هذا الموضوع بإسهاب يشير إلى قدر من القلق، وقد كان أغلبها من أطراف "أكاديمية" متخصصة، فهناك البيان الذي وقّعه 35 من الأطباء النفسيين الأمريكيين، ونشرت (نيويورك تايمز، وأتلنتيك، ونيويورك ديلي نيوز) وغيرها مقتطفات من البيان.
وأهم ما ورد في بيان الأطباء النفسيين هو "أن ترامب غير مؤهل عقليًّا لوظيفة قائد عام"، ويرى البروفيسور جون غارتنر من جامعة جون هوبكنز أن ترامب يعاني من "نرجسية مرضية، ولديه خلل عقلي لا يؤهله لمزاولة الرئاسة".
ويتفق الجميع على "نرجسية" ترامب، لكن الخلاف بينهم في حِدَّة هذه النرجسية، وكم مؤشر من مؤشراتها متوافر في شخصيته.
فالتيار الأكبر يرى أن لديه ثماني خصائص من خصائص النرجسية المرضية من بين تسع خصائص للنرجسية المرضية، ويرى آخرون أن ترامب يعاني من أربع منها فقط، وتتمثل خصائص النرجسية المرضية طبقًا لهذه المساجلات في أن النرجسي:
ينظر إلى إنجازاته العادية نظرة فيها قدر كبير من المبالغة بأهميتها.
لديه وَهْم المثالية.
يظن أن الناس العاديين لا يستطيعون فهمه، بل يحتاج لأشخاص غير عاديين لفهمه.
يستمتع بالإعجاب المفرط من قبل الآخرين به.
يرى نفسه دائمًا على حق.
يستغل علاقاته بالآخرين بصورة جشعة.
لا تعنيه مشاعر الآخرين.
لديه وهم بأن الآخرين يحسدونه على ما هو عليه، وتأكلهم مشاعر الغيرة منه.
متقلب، ويبرر مواقفه بتعجرف.
إن أغلب ما وجده الباحث من دراسات أمريكية لشخصية ترامب منذ طفولته ومراحل تطوره، وصولًا إلى عالم المال والأعمال وعلاقاته الفردية وميوله العاطفية وغيرها من الموضوعات، التي يُعنى بها علم النفس السياسي؛ يشير إلى ما يلي:
أ. افتقاده الشعور بالأمن، ويعيد عدد من الباحثين ذلك في شخصية ترامب إلى ثلاثة عوامل:
1. مرحلة التحاقه بالأكاديمية العسكرية، التي غرزت في نفسه إحساسًا بأن الآخر هو "العدو"، فدائمًا يتدرب على كيفية مواجهة طرف آخر، وهو ما جعل الشعور بالقلق من الآخر يغوص في أعماقه، ويتوارى وراء دافع آخر لكنه يعززه.
2. انغماسه في عالم المال والأعمال، الذي جعله يشعر بأن اليد الخفية التي يعرفها الاقتصاديون تتسلل بين لحظة وأخرى، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى انهيار إمبراطوريات اقتصادية وشركات وبنوك عملاقة، وقد ذاق ترامب بعضًا منها.
3. طفولته التي تشير إلى أن مستوى المديح الذي كان ينتظره من الوالدين لم يرْقَ إلى نزعات الطفل، فمع الثراء والحياة الهادئة التي عاشها لم ينل المديح الذي توقعه، ما جعله يطوي بداخله مشاعر القلق لمعرفة لماذا.
ب. الكذب: تشير دراسة لتصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية إلى أن التحقيق فيما كان يقوله يقود إلى النتائج التالية:
2 % مما قاله صحيح تمامًا.
7 % صحيح بنسبة عالية.
15 % نصف صحيح.
15 % كذب بنسبة عالية.
42 % كذب تمامًا.
18 % كذب فيه شطط كبير.
وهو ما يعني أن 76% من تصريحاته كانت أقرب إلى الكذب، مقارنة بـ29% لتصريحات هيلاري كلينتون.
ج. نرجسي جدًّا (كما سبق): يشير تحليل لكتابات ترامب والمقابلات الصحفية إلى أن لديه نرجسية عالية، تظهر في تكرار اسمه في مواضع كثيرة، وإحساسه بأن ما يستطيعه يعجز عنه الآخرون، ويطرب للمديح (وهو ما يتضح في كراهيته للإعلام لأنه لم يمدحه)، ونظرته إلى الآخرين توحي بقدر قليل من التعاطف الوجداني، بدليل أن لديه نزوعًا قويًّا وجامحًا إلى تشويه صورة خصمه.
د. تفاوضه: تدل استنتاجات الباحثين الذين اهتموا بمن تفاوض معه في دنيا المال والأعمال على أنه:
يوظف كل أدوات القوة لديه من بداية التفاوض بشراسة.
يُغرق الطرف الآخر في أدق التفاصيل، مهما بدت بسيطة أو تافهة.
يميل إلى وضع الطرف المقابل في ظروف تفاوضية غير مريحة بتشويه السمعة كما أشرنا سابقًا، وإيجاد بيئة تفاوضية محبطة للآخر تجعله يقبل شروط ترامب.
لا يعرف تأنيب الضمير على ما يقع للآخرين في نطاق العمل التفاوضي.
إذا شعر أن عناده قد يقود إلى الخسارة؛ فإنه يتراجع ولا يرى في ذلك ضيرًا.