لقد قدم الشباب الفلسطينيون في القدس نموذجًا فلسطينيًّا بامتياز في فرض إرادتهم الوطنية على الاحتلال، ولم تكن أحداث باب العمود هي المرة الأولى التي يتصدون فيها لقرارات الاحتلال التي تمس حريتهم الدينية والمدنية، ففي معركة البوابات الإلكترونية في يوليو 2017 استطاع المقدسيون إجبار الاحتلال على إزالة تلك البوابات التي هدفت إلى تقييد حريتهم في الوصول للمسجد الأقصى عبر التفتيش والفحص الإلكتروني ذهابًا وإيابًا، وفي معركة مصلى باب الرحمة (فبراير 2019) أجبر المقدسيون الاحتلال على فتح المصلى للصلاة تحقيقًا لإرادتهم التي ترى أن المصلى هو جزء من المسجد الأقصى، وأن الصلاة فيه هي حق خالص للمسلمين.
وكذا كانت أحداث باب العمود التي فرضت إرادة الشباب المقدسيين الذين يتمسكون بحقهم في الوجود في ساحة باب العمود وقتما شاؤوا، ويرون أن منعهم من استخدام المدرجات التي تعد متنزهًا مقدسيًّا تعدٍّ على حقهم المدني والطبيعي، الذي لا يقبلون أن تصادره بلدية الاحتلال.
ولعل السؤال دائمًا يأتي عن سر قوة الحراك المقدسي رغم ضعف إمكاناتهم المادية والسياسية؛ فهم لا يملكون قوة عسكرية للمقاومة كالتي في غزة، ولا تحركهم تنظيمات سياسية كما في الضفة، ولعل سر قوتهم يأتي مما يراه بعضٌ ضعفًا لدى غيرهم من المكونات الفلسطينية الأخرى؛ فهؤلاء شباب لا تحركهم تنظيمات أو فصائل ولا يرون أنفسهم سوى فلسطينيين من حقهم استعادة حقوقهم المغتصبة من الاحتلال الإسرائيلي.
هؤلاء لا يراهنون على إجراءات السلطة ولا قراراتها الشكلية، فهم قرروا في كل مرة أن يفرضوا سلطتهم وسيادتهم عبر المعركة في الميدان، هؤلاء لا ينتظرون من يزايد على حقهم السياسي بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية، فهم قادرون على فرضها في الميادين، مهما كان الثمن، وهم على ثقة بقدرتهم الذاتية لإجبار الاحتلال على الاستجابة، فظلم الاحتلال المستمر يضغط عليهم لأن يكونوا كذلك، وليس لديهم خيارات سوى المواجهة أمام مصادرة ممتلكاتهم وبيوتهم التي ولدوا فيها ومات على فراشها آباؤهم في الشيخ جراح، وضرائب الاحتلال التي تهدف إلى تعطيل حياتهم التجارية والاقتصادية، وتعكير صفو عبادتهم باقتحامات اليهود المستمرة للمسجد الأقصى بحماية كاملة من الشرطة الإسرائيلية.
رغم قسوة إجراءات الاحتلال ووحشيتها الشعب الفلسطيني لا يزال يملك قوة ذاتية متجددة لمواجهتها وإفشالها، فهو لا يملك خيارات كثيرة أو كبيرة بعد أن تخلى عنه كثير من العرب والمسلمين؛ إما بالصمت عن جرائم الاحتلال دون تحرك رسمي أو شعبي يتناسب مع حجم القدس ومكانة الأقصى، أو بالتطبيع مع الاحتلال ودعمه بالمال والاستثمار بدلًا من دعم الاقتصاد المقدسي والفلسطيني تحقيقًا للواجب القومي أو الديني!
إن صراع الإرادات الذي يخوضه الفلسطيني في معركته المستمرة مع الاحتلال يحمل معه كثيرًا من الألم من الشعور بالخذلان الخارجي والاستغلال الداخلي، فاستغلال رئيس السلطة حالة المقدسيين ومعاناتهم تحت الاحتلال، من أجل تعطيل المسار الديمقراطي بتأجيل الانتخابات، تحت ذرائع أثبت المقدسيون أنهم قادرون على تبديدها؛ يتجلى بتجاهله مأساة عشرات العائلات في حي الشيخ جراح المهددة بالتهجير والطرد.
وتبقى القدس العاصمة محل فخر ونموذج للعزة والكرامة التي تفرضها الإرادة الوطنية دون استجداء أو استرضاء للمحتل، فهي عنوان للصراع وبوصلة الثورة الفلسطينية التي لا تنتصر إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، شاء من شاء وأبى من أبى.