لم يعرف العرب إلا الصحراء، بحور من الرمل تمتد في الأفق اللامتناهي، حتى إن معاوية بن أبي سفيان لما عرض على عمر بن الخطاب خليفة رسول الله أن يركب المسلمون البحر للغزو، سأل عمر: "وما البحر؟"، فلما علم ما هو؛ رفض رفضًا قاطعًا خوفًا على من يركبه من المسلمين، فتأجل الأمر حتى خلافة عثمان بن عفان، الذي أمر بإنشاء الأسطول الإسلامي الذي انطلق فيه المسلون يكملون فتوحاتهم حتى بلغوا جزيرة قبرص، الأمر الذي أثار مخاوف الروم من أن يفتح المسلمون عاصمتهم القسطنطينية يومًا.
فجمع الروم من السفن ما لم يجمعوه من قبل، وأبحروا بها لملاقاة المسلمين واحتلال الإسكندرية، كبرى موانئ البحر المتوسط، فخرج إليهم الأسطول الإسلامي في المعركة البحرية الأولى لهم، التي كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ الدولة الإسلامية ودورها الحضاري والقيادي في العالم، انتصر فيها الأسطول الإسلامي على الروم رغم حداثة عهدهم بالحروب البحرية.
الزمان: عام 35ه.
المكان: البحر المتوسط بين سواحل مصر والأناضول.
أطراف الصراع: المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر في 200 سفينة فقط، والروم بقيادة قسطنطين بن هرقل ملك الروم فيما يزيد على 1000 سفينة.
أقضَّ نشاط المسلمين البحري مضاجع الروم، خاصة بعد أن أصبحت المناطق الساحلية التي يسيطر عليها الروم في مرمى الخطر، بعد سيطرة الأسطول الإسلامي على سواحل المتوسط من رودس اليونانية حتَّى برقة؛ فقرر قسطنطين بن هرقل أن يجمع أسطولًا بحريًّا هائلًا لقتال المسلمين، فيحافظ على مُلكه، ويسترد هيبته التي كسرها المسلمون، وتبقى لهم السَّيطرة في المتوسِّط، وقد غلب لديه الظن أنَّ المواجهة ستكون مضمونة النَّتائج، أمام مسلمين لا يجيدون نزال البحر ومقارعة الأمواج.
أشار أمير المؤمنين عثمان بن عفان ببدء الاستعداد لصدِّ عدوان الروم البحري المنتظر.
بدأت الاستعدادات بأن أرسل معاوية بن أبي سفيان والي الشام مراكب الشَّام بقيادة بُسْر بن أرطاة لينضم إلى مراكب مصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح، فاجتمع في جيش المسلمين أشجع المجاهدين ممَّن شاركوا في قتال الروم وهزيمتهم، وسقطت هيبتهم من نفوسهم في صولات وجولات سابقة.
انطلق المسلمون إلى عمق المياه، لرفع دين الله، وكسر شوكة الرُّوم المتغطرسين بقلوب مؤمنة بنصر الله.
التقى الجيشان وكانت الريح لمصلحة مراكب الروم، فعمد المسلمون إلى المرفأ فرسوا ساعة، ورسا الروم بقربهم، فعرض المسلمون على الروم أن ينزلوا إلى الساحل ويقتتلوا حتى ينتصر أحدهما، ولكن الروم قالوا: بل الماء، الماء، الماء، لثقتهم بخبرتهم البحريَّة، وأملهم في النَّصر بسبب تفوقهم على المسلمين في فنون البحر.
انقضى اليوم الأول وموقف المسلمين حرج جدًّا، حتى طلب قائدهم المشورة فأشاروا عليه وباتوا ليلتهم في عرض البحر يصلُّون ويتضرعون لله لهم دوي يشبه دوي النحل يختلط بصوت تلاطم الأمواج تضرب المراكب، أمَّا الرُّوم فباتوا يدقون النَّواقيس في سفنهم.
أصبح القوم، وأراد قسطنطين أن يسارع إلى القتال، وكان عبد الله بن أبي السرح قد اتفق مع مستشاريه وقادة جنده على أن يجعلوا المعركة برِّيَّة في عرض البحر بأن ينزل الفدائيون المسلمون إلى الماء فيربطون سفنهم بسفن الأعداء بحبالٍ متينة، كل عشرة أو عشرين منها متَّصلةٌ معًا، وكأنها قطعة أرض ستجري عليها المعركة.
انطلق الروم يقاتلون بشراسة يظنون أنهم منتصرون، وكذلك المسلمون، فسالت الدماء غزيرة اصطبغت بها مياه البحر وغدت حمراء قانية، وتساقطت الجثث من الطرفين في الماء.
صمد المسلمون رغم قساوة المعركة، وثبتوا وصبروا، فكتب الله لهم النَّصر.
وانهزمت فلول أسطول الروم، وتمكن ملكهم قسطنطين من الفرار يجر ذيول الخيبة والهزيمة، بجراح تملأ جسده، وحسرة تأكل فؤاده.
انتصر المسلمون وتفوَّقت العقيدة الصَّحيحة على الخبرة البحرية العسكريَّة العريقة بإذن الله، وانتهى اسم بحر الروم إلى الأبد وأصبح منذئذ بحر الشام.