لا يزال استشراف المستقبل وبناء السيناريوهات المتوقعة هما من أقوى الأدوات التي تعتمدها القوى العظمى في بناء إستراتيجيات التحرك وبناء الخطط الكبيرة. وعلى الرغم من كوننا عربًا لا نزال متفرقين ولسنا قوى عظمى، يمكنها أن تبني استراتيجيات على أساس قومي تطمح لأن تكون صاحبة الكلمة الأولى في الإقليم عوضًا عن العالم؛ فإننا مضطرون -للأسف- أن نستخدم نتائج مراكز دراسات وخلاصات تفكير الآخرين، حتى لو كانوا أعداءنا!
ولعل الدراسة التي قدمها ثلاثة من الباحثين الإسرائيليين عن مستقبل الشرق الأوسط خلال العقد القادم تمثل إحدى تلك المصادر المهمة التي يمكننا أن نرى من خلالها بعيون عدونا، مع أخذنا بعين الاعتبار أنها تعكس وجهة نظر إسرائيلية كما صرح بذلك المؤلفين الثلاثة "أري هيستين" و "دانييل راكوف" و "يويل جوزانسكي".
الدراسة تحمل عنوانًا صريحًا وقويًّا في نفس الوقت: "كيف سيبدو الشرق الأوسط في عام 2030؟: وجهة نظر إسرائيلية" وقد نشرها "معهد الشرق الأوسط" بواشنطن في مارس 2021 الماضي. وفي هذا المقال سأستعرض الاتجاهات الثمانية التي خلصت إليها الدراسة العلمية، والتي تتمثل ما قاله "هيرمان خان" في كتابه "التفكير فيما لا يمكن تصوره"، حتى نستطيع أن نبني إستراتيجياتنا الإقليمية والعربية بناء على مصالحنا لا على مصالح عدونا، فإن معرفتك لما يفكر به عدوك يجعلك ترى نفسك رؤية أفضل.
الاتجاه الأول: تراجع أحادية القطبية لصالح ثنائية القطبية (الولايات المتحدة والصين) أو ثلاثية القطبية (الولايات المتحدة والصين وروسيا)، بحيث تقلل الولايات المتحدة من تواجدها العسكري لصالح التوجه إلى آسيا، وتركز الصين على المشاريع التجارية والبنية التحتية في المنطقة، وتجعل روسيا من نفسها صانع قرار رئيسًا في الشرق الأوسط.
الاتجاه الثاني: التنافس الإقليمي بين ثلاثة تحالفات على أساس المصالح المطلقة بين مكونات كل تحالف منها. والتحالفات هي: 1. تحالف شيعي تقوده إيران ويشمل دولًا وحركات مسلحة في العراق وسوريا واليمن ولبنان. 2. تحالف إسلامي سُنِّي يشمل تركيا وقطر. 3. تحالف سعودي إماراتي.
الاتجاه الثالث: التغيير الأيديولوجي بعد انتهاء حقبة الإخوان المسلمين، واحتمالية ظهور شكل جديد من حركات "الإسلام السياسي" أو حتى حركات أكثر تشددًا من القاعدة وتنظيم الدولة. ويرجع ذلك لاستمرار القمع السياسي وتضاؤل فرص التغيير السياسي الديمقراطي في دول المنطقة.
الاتجاه الرابع: انتشار تقنيات خطرة ليست نووية، مثل الأسلحة دقيقة التوجيه بحيث تكون أكثر خطرًا وانتشارًا بعيدًا عن سيطرة الدول، لتكون في متناول حركات مسلحة نشطة.
الاتجاه الخامس: تزايد الضغوط الديمغرافية، بحيث تصل نسبة الزيادة السكانية إلى 20% بما يعني وصول عدد السكان في الشرق الأوسط عام 2030 إلى نصف مليار (581 مليون) نسمة، معظمهم من الشباب في ظل تراجع اقتصادي وسياسي واجتماعي، ما سيرفع نسبة البطالة لدى الشباب إلى 11% مع وجود 5 ملايين طفل بلا تعليم خارج مقاعد المدرسة.
الاتجاه السادس: محدودية الآفاق الاجتماعية والاقتصادية نتيجة فشل/إفشال النظم الحاكمة والمتنفذة لمحاولات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بالإضافة إلى الآثار المترتبة على جائحة كورونا.
الاتجاه السابع: المشاكل البيئية الناتجة عن التغير المناخي، ستزيد من مشكلة شح المياه، ما يعني نقص الغذاء وبالتالي زيادة أزمات اللاجئين. كما أن بعض التوقعات تصل إلى أن بعض مناطق الخليج ستصبح غير صالحة للسكن في 2050.
الاتجاه الثامن: التغير التكنولوجي السريع الذي يعتمد على تقنيات الذكاء الصناعي، والتي ستمكن الانظمة الاستبدادية من التدخل في الحياة الخاصة للمجتمعات، وهذا سيخلق ما يعرف بـ "الاستبداد الرقمي”. بالإضافة إلى تعزيز استخدام الأنظمة غير المأهولة في المعارك والصراعات.
إن ما يخدمنا من تلك الدراسة هو تلك الاتجاهات المجردة، بعيدًا عن بعض الخلاصات التي تعكس نظرة إسرائيلية موجهة، ولذا فقد تجاهلت التوصيات التي قدمتها الدراسة لمتخذي القرار في (إسرائيل) فهي لا تحمل عمقًا يمكننا أن نبني عليه توجهات، بقدر ما يلزمنا التحليل العلمي للبيئة والتوجهات الإستراتيجية للمنطقة في عقدها القادم.