خاضت حركة حماس الانتخابات البرلمانية عام 2006 استنادًا إلى اتفاق وطني، جمع كل الفصائل، ورعته الحكومة المصرية، وكان الهدف من ذلك الاتفاق هو إصلاح النظام السياسي الفلسطيني في إطار السلطة والمنظمة، وبناء حالة راسخة من الشراكة السياسية بين مختلف مكونات الساحة السياسية الفلسطينية.
بمجرد إعلان النتائج، وقبل أن تبدأ الحركة عملها في المؤسسات الحكومية، وقبل أن تُحسِن أو تسيء، فُرضت عليها الشروط من قِبَل الرباعية الدولية، وفي قلب هذه الشروط: الاعتراف بإسرائيل، والتزام اتفاقيات أوسلو وما يتعلق بها من التزامات تجاه حماية أمن إسرائيل، إضافة إلى امتناع البنوك الفلسطينية عن التعامل مع الحكومة العاشرة التي شكلها إسماعيل هنية، والحصار الذي فُرض على هذه الحكومة، وتمرد الأجهزة الأمنية، الذي كان بعضه ظاهرًا وبعضه الآخر خفيًّا، إلخ.
تذهب حماس الآن لانتخابات جديدة، فهل تلقت ضمانات أكيدة بأن تجربة الشروط والضغوط والحصار والعقوبات لن تتكرر؟ أم أن حركة حماس تنوي الاستجابة لتلك الشروط والقيود، وتدفع الأثمان السياسية التي تُطالب بها إسرائيل وبعض الدول الكُبرى والصُغرى ومتوسطة الحجم في الإقليم والعالم؟
لا توجد مؤشرات على وجود ضمانات على احترام نتائج الانتخابات، بالعكس توجد بعض التصريحات والتسريبات من جهات غربية تؤكد أنها ترغب بأن تُسفر نتائج الانتخابات عن نجاح فريق معين، وتُبدي خوفها من فوز فريق آخر. وكذلك لا توجد مؤشرات أيضًا على وجود توجه عند حركة حماس للاستجابة للشروط الدولية. وبالتالي من حق الجميع أن يسأل ما الذي يجري؟ هل استخلصت حركة حماس العبر أم لا؟
لو توقفنا عند اسم القائمة الانتخابية، وما طرأ عليه من تغيير، سنجد أنفسنا أمام أكثر من تفسير، ربما يُناقض الواحد منها الآخر، وتجدر الإشارة إلى أن القائمة الانتخابية حملت في انتخابات عام 2006 اسم (التغيير والإصلاح)، أما هذه المرة فقد أُطلِق عليها اسم (القدس موعدنا). هل هو تغيير عابر؟ أم أنه يحمل دلالات سياسية؟
يمكن للمراقب أن يرى في التخلي عن الاسم القديم الذي خاضت به حركة حماس الانتخابات دليلًا واضحًا على اعتراف بفشل تجربة الحكم التي مارستها حركة حماس، ويعدُّها هروبًا من التعامل مع الشأن السياسي وما يترتب عليه من توفير بيئة آمنة، تكفل تحقيق تنمية سياسية واقتصادية، يستطيع الناس أن يتنافسوا في إطارها على كسب العيش، ويشاركوا في بناء حياتهم بعيدًا عن التهديدات.
ويستطيع المراقب أيضًا أن يعد اللجوء إلى الاسم الجديد للقائمة (القدس موعدنا) رغبة حمساوية بالفرار نحو المقدس، والاحتماء به من نقمة وعقاب الجمهور في الصناديق، وإعفاء الذات من تقديم وعود انتخابية مبالغ فيها، ويمكن أن تُحاسب عليها الحركة مرة أخرى.
لكن يمكن لحركة حماس الادعاء فيما يتعلق بـ (تغيير العنوان)، والقول إنه يأتي في إطار استخلاص العِبَر من التجربة السابقة، ويستطيع المراقب استنباط مجموعة من النقاط التي تبرز في سلوك وخطاب حركة حماس، إضافة إلى ممارساتها في كل ما يتعلق بالشأن العام، وهي:
أولًا: أدركت حركة حماس، ومن خلال التجربة، أن مؤسسات السلطة الفلسطينية السياسية أضيق من تستوعب كل أطياف الشعب الفلسطيني، ولا تمتلك القدرة على تمثيل إرادة الناس، وأنه عندما تم تأسيس السلطة، وبناء مؤسساتها الاقتصادية -في الإطار الحكومي والقطاع الخاص، ومؤسساتها الأمنية والقضائية، كلها تم تصميمها لخدمة نهج سياسي معين، وهذا ما يُفسر حالة الارتباك التي حدثت عام 2006، واستمرت حتى عام 2021، ولهذا أرادت أن تربط بين المعيشي والسياسي والوطني في آن واحد من خلال عنوان القدس موعدنا.
ثانيًا: القدس في الضمير والوجدان والوعي الفلسطيني تعني مجموعة من المفاهيم الراسخة، ويمكن تلخيصها في أنها عنوان للثورات الفلسطينية منذ النبي موسى وحتى الآن، وهي رمز لتحقيق العدالة الاجتماعية بين كل مكونات الشعب الفلسطيني وفي القلب منهم المسلمون والمسيحيون منذ العُهدة العُمَرية وحتى اللحظة الراهنة، وهي تُكثِّف باقتدار الأخطار التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني (التهويد، والاستيطان، والتطهير العرقي، والحصار، والحرب الاقتصادية)، وهي العنوان الأقدر على حشد وتوحيد طاقات الشعب الفلسطيني، وهي تلخص فكرة الإدماج بين إعلاء الشأن الوطني دون التنكر للشأن المعيشي؛ وذلك لأن صمود المقدسيين يتطلب تمكينهم اقتصاديًّا.
ثالثًا: يمكن تلخيص المرحلة السابقة منذ اتفاقية أوسلو وحتى اللحظة في عبارة واحدة، وهي (رفاهية الفرد وإفقار الوطن)، هذا هو المضمون الحقيقي للحالة القائمة تحت ولاية السلطة الفلسطينية، فكل ما هو موجود يتمثل في منح رواتب للناس يعتاشون منها، وربما يدّخرون، وفي المقابل سرقة الثروة القومية المتمثلة في الأرض، هذه هي الحالة القائمة في الضفة الغربية الآن، حيث سرق الاحتلال حوالي 60% من أرض الضفة، وتضاعف الاستيطان فيها حوالي ثلاثة أضعاف في عهد رئاسة السيد محمود عباس للسلطة.
هذه الأراضي التي صودرت هي الريف الفلسطيني، وهي سلة الغذاء التي يمكن أن توفر الأمن الاقتصادي للشعب الفلسطيني لو تمكن من استثمارها، وضياع هذه المساحة من الأرض يجعل الوجود الفلسطيني محصورًا في كانتونات قد تضيق بأهلها، الأمر الذي يجعلهم عُرضة للتهجير نحو ما تعده إسرائيل "الوطن البديل" -لا سمح الله- تحت ضغوط المعركة القادمة، تلك المعركة التي سيفرضها المستوطنون في الضفة الغربية.
ربما تكون هذه الاعتبارات هي ما جعلت حركة حماس ترفع هذا الشعار، وتدعو من خلاله إلى إعادة التفكير في الضخ الإعلامي الكثيف الذي يروِّج إلى مقولات من نوع أن اهتمامات الفلسطينيين الوطنية تراجعت، وأن أوضاعهم الاقتصادية هي أكثر ما يعنيهم.
ويعزز هذا الاعتقاد أن حركة حماس جرّبت في الفترة السابقة التي تلت انتخابات 2006 عدة مقاربات في معالجة الصعوبات التي تعانيها غزة، ومن ذلك أنها جرّبت الحوارات الفلسطينية من أجل تحقيق المصالحة، لكن المحصلة النهائية لهذه الحوارات لم تكن إيجابية، بالعكس زادت شراسة الحصار الذي يفرضه الاحتلال، والعقوبات التي تفرضها السلطة، وعندما خاضت المواجهة في الحروب الكبيرة وجدت التفافًا شعبيًا، لكنها لم تجد حلولًا لمشكلات قطاع غزة، أما عندما ذهبت مع كل أبناء قطاع غزة إلى مسيرات العودة وفك الحصار، فقد تمكنت من وضع حد للتدهور الاقتصادي، وإن لم تتمكن من تحسين الأوضاع الاقتصادية، حيث فُتح معبر رفح، وفُتحت بوابة صلاح الدين مع مصر للبضائع، وعندما رفضت البنوك استقبال أموال المساعدات من قطر، تم إدخال هذه الأموال من خلال المعابر.
خلاصة القول في تجربة العقد ونصف الماضيين في تجربة حركة حماس تقول إن بناء الشراكة مع أوسع شرائح اجتماعية وسياسية ممكنة، وخوض الكفاح بأساليب متجددة ضد الاحتلال هو ما يمكن أن يفتح الطريق أمام الفلسطينيين، لكن هذا يتطلب تقييمًا متجددًا للواقع، وحذرًا من الوقوع في مصايد الاحتلال والأطراف الإقليمية ذات النفوذ.