صحيح أن إسرائيل هي عدو، وأن أيًّا من يتولى تشكيل الحكومة لا يكون حريصًا على حقوق الشعب الفلسطيني، التي تتعارض بالضرورة مع وجوده السياسي وأصوات ناخبيه الصهاينة؛ لكن انعكاسات نتائج تلك الانتخابات تؤثر في الشأن الفلسطيني إما سلبيًّا وإما إيجابيًّا، وذلك قد يكون على المستوى السياسي والأمني أو حتى الاقتصادي والاجتماعي. كما أن الجملة الإعلامية بأن "الانتخابات الإسرائيلية شأن داخلي" لا تعكس مضمون ما يجري على الأرض.
فعلى مستوى السلطة وفريق أوسلو، كان التعويل دائمًا على صعود اليسار الإسرائيلي الذي يمثل طوق نجاة للعملية السياسية، حتى وإن لم تحرز أي تقدم ميداني، وهذا ما مثلته رئاسة حزب العمل (إسحاق رابين-شمعون بيرس) في الفترة بين 1992-1996م التي كانت نتيجتها اتفاق أوسلو عام 1994م، في حين كان فوز اليمين هو كابوس لذلك الفريق؛ فاليمين لا يرى في أي طرف فلسطيني شريكًا في أي تسوية، بل لا يؤمن بأي عملية سياسية إقليمية يكون للفلسطينيين دور فيها. فمنذ وصول نتنياهو إلى رئاسة الوزراء أول مرة (1996-1999م) توقفت دماء التسوية عندما فرض مبدأ "الأمن مقابل السلام" بدلًا من "الأرض مقابل السلام"!
وكذا كانت حالة تذبذب سياسي وأمني زمن حكم حزب العمل (إيهود براك 199-2001) ثم الليكود (أرئيل شارون-إيهود أولمرت 2003-2006)، إلى أن جاءت حكومة حزب "كاديما" الذي مثل حالة وسط بين اليمن واليسار ولكن بقيادات يمينية مثل إيهود أولمرت (2006-2009)، حيث تنفست السلطة الصعداء، رغم انتكاس مشروعها السياسي بفوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي عام 2006 وتشكيل أول حكومة برئاسة إسماعيل هنية، حيث إن الأمر قد بدا في البداية على أنه غمامة صيف يمكن تبديدها بالضغط الداخلي عبر تعطيل انتقال الوزارات والصلاحيات إلى حكومة هنية، بالتزامن مع حصار سياسي واقتصادي عليها من الاحتلال.
ومعلوم أنه منذ عودة نتنياهو لرئاسة حكومة الاحتلال عام 2009 وهو يرفض أي شكل من أشكال العمل السياسي مع السلطة، ويقتصر العلاقة على البعد الأمني ضمن ما يعرف بالتنسيق الأمني في الضفة الغربية على مبدأ "الأمن مقابل السلام".
ولا بد أن نتذكر ما قالته وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيفي ليفني خلال مؤتمر صحفي في واشنطن، بعد فوز حركة حماس بأغلبية برلمانية واستعدادها لتشكيل أول حكومة مقاومة في فلسطين: "بالنسبة لنا فإن نتائج الانتخابات في السلطة الفلسطينية هي إشكالية كبيرة، ومن المهم لنا أن يدرك المجتمع الدولي مدى الحاجة إلى التحدث عن ذلك بصوت عال وواضح"، ثم حددت للسلطة شروطًا أربعة لاستمرار المفاوضات: اعتراف حماس بـ(إسرائيل) وإدانة الإرهاب ونزع الأسلحة والاعتراف بالاتفاقيات السابقة. وأكدت تهديدها لكل الفلسطينيين بأن: "عليهم أن يأخذوا بالحسبان ماذا سيحصل في حال رفضهم الشروط الأربعة".
وقد مثلت تلك الشروط أساسًا لما عرف بعد ذلك بشروط الرباعية الدولية "روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة"، التي مثلت طوق نجاة لرئيس السلطة (محمود عباس) ليمارس ضغوطه لإفشال حكم حماس وحصرها في قطاع غزة دون الضفة الغربية.
بالنسبة لفصائل المقاومة فإنها تدرك تماماً بأن السلوك الميداني للعدو عسكرياً وأمنياً غير مرتبط مباشرة بنتائج الانتخابات التي بالضرورة ستفرز حكومة يمينية متطرفة، لكن في ذات الوقت تدرك أن إتمام صفقة تبادل للأسرى تحتاج إلى حكومة قوية، بل إلى رئيس وزراء قوي وقادر على اتخاذ قرارات صعبة ستفرضها عليها المقاومة. إن قرار الانسحاب من غزة (سبتمبر 2005) لم يكن قراراً سهلاً وعليه لم يكن في إسرائيل أحد يستطيع أن ينفذه مثل شارون، حتى وإن أدى إلى انسحابه من الليكود وتشكيل حزب كاديما.
وكذا قرار صفقة وفاء الأحرار فإن شخصية قوية مثل نتنياهو هي فقط التي استطاعت تمريره، وحتى التفاهمات مع المقاومة فإنها تشكل حالة ضغط من المقاومة على العدو وعليه تحتاج إلى تجاوز كبرياء الحزبيين الإسرائيليين من أجل تمرير هكذا مستوى من القرارات.
كما أن التطبيع مع بعض الدول العربية الذي يتباهى به نتنياهو ويعتبره إنجازه الشخصي، فهو يمثل الوجه الحقيقي لرؤيته "السلام الإقليمي"، فإنه سيتأثر تأثيرًا مباشرًا بمن سيكون على رأس الحكومة الإسرائيلية القادمة.
إن حالة العداء مع (إسرائيل) يجب أن تدفعنا إلى عدم الاكتفاء بالمراقبة والانتظار، فثمة تغيرات كبيرة داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية تذهب بهم إلى حالة تشظٍّ حزبي وجمود حكومي، ينعكس بالضرورة على البعد الفلسطيني والعربي. كما أن النزعة الحادة إلى اليمين المتطرف في مقابل تلاشي أحزاب اليسار وتفتتها يجب أن يمنحنا فرصاً لتعرية العدو وفضح خطابه السادي، وهذا يحتاج إلى عمل طويل وتشبيك يتجاوز الحدود والكلام.