اعتقلت قوّات الاحتلال، ليلة اليوم الأوّل من رمضان، منسّق كتلة "القدس موعدنا"، الممثلة لحركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، المفترض إجراؤها في 22 أيار/ مايو. وإذ يُعَدّ هذا الاعتقال ضربة مركّزة ضدّ الكتلة، وهي ضربة متوقعة من الشخص نفسه الذي سبق له الاعتقال في سجون الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ومن كتلته التي يستشعر أعضاؤها الملاحقة المستمرّة، فإنّها مؤشّر على الظروف التي تعانيها حركة حماس في الضفّة الغربية، والتعقيد الذي فرضه وجود سلطة فلسطينية في ظلّ الاحتلال.
تجربة التأثير في السلطة من داخلها، ونسج تقارب وطني على أرضية السلطة التي أسّستها حركة فتح، بدأتها حركة حماس في انتخابات العام 2006، بيد أنّ تلك التجربة تعرّضت لحصار فوريّ ومباشر، متعدّد الحلقات، ابتداء من حركة فتح التي هي العمود الفقري لجهاز السلطة بشقيه المدني والأمني. ومن ثمّ لم تكن السلطة جهازاً محايداً يتقبّل الإدارة الجديدة، ولا حركة فتح كانت في وارد التخلّي عن مكتسبها السلطوي، أو التخلّي عن صدارة تمثيل الفلسطينيين للقوّة الأكثر جديّة وقدرة في منافستها، ثمّ تتسع الحلقات، من الاحتلال وصولاً للنظامين الإقليمي والدولي، إلا أنّ الاحتلال ظلّ العامل الأوّل الأهمّ في التحكّم بوقائع التجربة ومآلاتها، كونه الحاكم الأساس ذا القوّة الطائلة، في ساحة الضفّة الغربيّة كلّها.
يمكن القول إنّ تحكّم الاحتلال شامل، فهو قادر على الحصار الاقتصادي بما يشلّ القدرة على التسيير تماماً، كما تؤكد على ذلك باستمرار أزمة المقاصّة قريبة العهد بين السلطة والاحتلال، وعلى شلّ الحركة البشريّة، بالمنع من السفر أو من التحرك في الداخل، أو بالاعتقال، وسلاح الاعتقال هذا هو الذي لم يدع نائباً لحماس ولا وزيراً في الضفّة الغربية، من بعد انتخابات العام 2006، إلا وأدخله السجن، بعضهم لفترات طويلة، على مراحل متقطّعة. وإذا كانت حملات الاعتقال التي حفّت انتخابات العام 2006، قبيلها وبعدها، ارتبطت على نحو ما بأعمال مقاوِمة، لحماس، في الضفّة الغربية وغزّة، فإنّ جعل نواب حماس في دائرة الاستهداف المركّز طوال السنوات التي مرّت، كان يتجاوز الراهن والسبب المباشر إلى ما هو أعمق، وألصق باستراتيجية ثابتة للاحتلال.
استفاد الاحتلال من الانقسام الفلسطيني (الناجم جوهريّاً، عن الرفض الفعلي والعملي لجهاز السلطة، لنتيجة الانتخابات) بتفكيك البنى التنظيمية لحماس في الضفّة، باستثمار مساهمة السلطة الفلسطينية الكبيرة في ذلك، وهي المساهمة المتصلة بدورها ووظيفتها، والمتعزّزة بالانقسام وملابساته وحيثياته. أمّا وقد أَنجزت هذه الحملة المزدوجة ذاك التفكيك، فإنّ الاحتلال تجاوز الدوافع الراهنة في حملاته السابقة على حماس، إلى تكريس واقع أمنيّ استراتيجي وسياسي، يهدف إلى منع أيّ قيامة تنظيمية لحماس في الضفّة الغربيّة.
تقوم استراتيجية الاحتلال على جملة دعائم. في العمق تنهض على رؤيته لموقع الضفّة الغربية من الاستراتيجية الأمنية الداخلية، أي من حيث الأخطار الأمنية التي يمكن أن يشكّلها الفلسطينيون فيها، وهو ما يفسّر حملات الاعتقال الكبيرة الليلية بلا توقّف، وكذلك موقع الضفّة من الاستراتيجية الأمنية في التصدّي للمخاطر الخارجية، وموقعها في الدعاية الصهيونية. وفي المجريات، تنهض تلك الدعائم على خبرة الاحتلال الخاصّة والمتراكمة، بما في ذلك التعامل مع حركة حماس تحديداً.
ينبغي التنبيه هنا إلى أنّ قدرة الاحتلال على مراكمة الخبرة، أكبر بكثير مما لدى الفلسطينيين، لانقطاع تجارب الفلسطينيين الكفاحية والتنظيمية، بينما تتيح الدولة المتواصلة، بما تملك من قوّة هائلة، للاحتلال مراكمة خبرته، بينما نلحظ لدى الفلسطينيين انقطاعاً في الوعي التاريخي، لا سيما لدى السياسيين منهم، جرّاء انقطاع التجارب، دون أن تتصل عضويّاً بما يليها، والاستثناء الوحيد الجاري في ذلك هو قاعدة المقاومة في غزّة. فقد أتاح لها الاستقرار المراكمة في القدرات والخبرات والوعي بأدوات العدوّ الأمنية والعسكرية ومحاولة التكيّف معها.
إنّ تجربة قطاع غزّة، على ما تعانيه، تدفع الاحتلال لمنع تطوير أيّ حالة وطنيّة تتسم بالوعي والمثابرة في الضفّة، ولو في أطر المقاومة الشعبية والتعبئة الوطنية، بمعنى يسعى الاحتلال لضمان استمرار التفكّك، وفرض الاستنزاف على ساحة الضفّة، حتى لا تتحول ولو في حدود دنيا، إلى بيئة مستقرّة من النضال المرهق للاحتلال. وهنا تتحفّز ذاكرة الاحتلال القريبة تجاه انتفاضة الأقصى، التي مثلت أكبر حالات النضال الملحمي المتحدّي لجميع مؤسسات دولة الاحتلال، وبناها السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية. وفي حين كانت الضفّة الأكثر قدرة، بحكم التداخل مع الاحتلال، على إيذائه، كانت غزّة الأكثر قدرة على المراكمة، لاختلاف رؤية الاحتلال لكلا الجغرافيتين، فكيف لو اجتمع الاستقرار النسبيّ مع التداخل في إعادة تشكيل بنى المقاومة؟!
يدرك الاحتلال أنّ تحفّزه الأمني، والذي تطوّرت أدواته إلى حدّ غير متصوّر منذ انتفاضة الأقصى وحتّى هذه اللحظة، وحده الذي يشلّ قدرات حماس التنظيمية، وبما يغنيه عن جهود السلطة، وهو ما يجعله يمنع أيّ مظهر لنشاط حماس، ولو في أيّ مستوى من مجالات عملها. فطالما أنّه قادر على خنق مستويات العمل التنظيمي لحماس في أبعاده الخاصّة والعامّة، من حيث الأساس، فلماذا يسمح بمستويات كهذه، تتضخم في ظلّ سماحه، ثم ترهقه تالياً وهو يحاول خنقها من جديد، أو منع تطوّرها إلى عمل مقاوم مؤذٍ له؟! هنا يحرص الاحتلال على فرض قانونه الذي يحظر حماس، بكل أجهزتها وامتداداتها وقطاعات عملها.
هذه الاستراتيجية لدى الاحتلال أهمّ من تخسير حماس الانتخابات، أو التأثير على النتائج المحتملة لتلك الانتخابات، وهي في الغاية الأدنى شلّ حركة حماس تماماً، وفي الغاية الأعلى تجريف الوطنية الشعبية في الضفّة، لضمان استقرار هذه المنطقة لصالحه في إطار رؤيته الاستراتيجية. ومن ثمّ فإنّ حملات الاعتقال التي تستهدف مرشحي حماس هذه المرّة، لا سيما الذين يتسمون بالنشاط الظاهر أو يتمتعون بأدوار حيوية، وما يحيط هؤلاء المرشحين من بنى تنظيمية وشخصيات فاعلة، تهدف (أي حملات الاعتقال) إلى منع استثمار حماس للانتخابات لاستعادة عافيتها التنظيمية ولو نسبيّاً.
في هذا التصوير يحضر الاحتلال بكثافة في الانتخابات التي تجري في ظلّ هيمنته الأمنية والعسكرية المطلقة. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه المعضلة لم تنشأ مع هذه الانتخابات أو أمس، وإنما مع تأسيس السلطة، فهي ملازمة لها وشارطة لوجودها، مما يجعل الأسئلة المطروحة على جميع القوى الفلسطينية الآن ثقيلة جدّاً.