لم تكن هبة أبناء الشعب الفلسطيني بتاريخ 30/3/1976 في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948، مجرد رد فعل عابر، ولكنها كانت تعبيراً واضحاً عما تشغله الأرض من مكانة مركزية في ثقافة ووجدان وحياة الإنسان الفلسطيني.
ويمكن القول إن الأرض قد احتلت هذه المكانة المركزية في ثقافة الشعب الفلسطيني لأسباب ثلاثة، تتمثل في: الرابطة الطبيعية الفطرية من خلال الاشتغال بالزراعة، والمكانة المقدسة بسبب وجود المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وما ورد بحق هذه الأرض من نصوص دينية، إضافة إلى الغزو الاستعماري الاستيطاني الإحلالي الصهيوني وما شكله من مخاطر على الأرض والإنسان في وقت واحد.
لقد نشأ الإنسان الفلسطيني فوق هذه الأرض وتطورت حياته منذ عصور بعيدة من خلال التفاعل مع الأرض، وارتباطاً بمواردها، لقد عمل الفلسطيني بالزراعة في أرض هذه البلاد، وتعرف إلى ما يصلح لكل شبر أرض من المزروعات، وتعايش مع سواحل هذه البلاد وسفوح الجبال والوديان والأرياف والبوادي بمهارة وحب.
ومن خلال العمل بالزراعة حصل الفلسطيني على طعامه، وحقق اكتفاءً ذاتياً، وصدّر الفائض إلى بلدان العالم الخارجي، وأقام الصناعات المختلفة، سواء تلك التي يحتاج إليها في الغذاء، أو الملابس، وأدوات النظافة، حتى أنهم استخدموا الأخشاب مصدرا من مصادر الطاقة التي يحتاجون إليها في إنجاز أعمالهم البيتية والصناعية.
ولم يقتصر على زراعة الأرض، بل استخدم طينها في صناعة الطوب، ومن ثم بناء البيوت التي يسكنها، ويخزن فيها البضائع، وصنع من طين هذه الأرض الأواني الفخارية التي استخدمها لطهي الطعام وسكبه على الموائد، وكذلك لاستخدامها في الشراب، إضافة إلى تخزين ما يفيض عن الحاجة في الأواني الفخارية المصنوعة من طين هذه الأرض، ولم يقف الأمر عند هذا الاستخدام، بل تاجروا بهذه المصنوعات الفخارية مع البلدان الخارجية، وحققوا من وراء ذلك أرباحا كثيرة.
وقد تناقل الفلسطينيون الكثير من الأمثال الشعبية التي تؤكد عمق ارتباطهم بالأرض، ومن هذه الأمثال (أرضنا مقدسة، ما فيها شيء بيتخبى)، وكأنه عهد بين الأرض وأهلها بأن تظهر الحقيقة وتنتهي المكائد، ومثل آخر (من طين بلادك حنِّي خدادك) وهذا يُشير إلى مدى الاعتزاز والفخر، وليس مجرد الارتباط بها.
ومن شدة إيمانهم وقناعتهم بفائدة الأرض وبركتها، قال الفلسطينيون في أمثالهم: (الأرض بتقاتل مع أهلها)، وكذلك قالوا: (الرمي بالطوب ولا الهروب) وقد استخدم الفلسطينيون طوب الأرض في واحدة من أكثر نضالاتهم أهمية، وهي انتفاضة الحجارة، وبلغت ثقة الفلسطيني بإمكانات أرضه حد القول: (لو كانت عكا خايفة من هدير البحر ما وقفتش على الشط).
وفيما يتعلق بالمكانة المقدسة، فإن وجود المسجد الأقصى وكنائس القيامة والمهد والبشارة جعل سكان هذه البلاد من مسلمين ومسيحيين يعتزون بهذه الأرض ويتمسكون بها، وقد ورد الكثير من النصوص الإسلامية في القرآن الكريم والحديث والشريف، الأمر الذي جعل الفلسطينيين ينظرون إلى هذه الأرض جزءًا من دينهم وعقيدتهم، ويجعل واجب الحفاظ عليها يكتسب صفة الواجب الديني، ولا يقتصر على الواجب الوطني فقط.
ولم تقتصر إشارات النصوص الدينية لهذه الأرض على بركتها وقداستها، بل شملت تأكيد الأهمية الإستراتيجية لها، ومن هذه النصوص الحديث الشريف الذي خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل قائلاً له: (يا معاذ، إن الله سيفتح عليكم الشام من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم وإماؤهم في رباط إلى يوم القيامة، ومن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام فهو في جهاد إلى يوم القيامة).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا يتنبأ بالمستقبل، ويُنبه المسلمين فيما يتعلق بالخطر المتوقع، والسلوك الواجب تجاه فلسطين، وكأنه يقول لمعاذ إن فتح فلسطين مسألة محسومة، لكن المشكلة بشأنها ستنشأ بعد الفتح، والحفاظ عليها يتطلب رباطا من أهلها، إضافة إلى جهاد من عموم المسلمين.
وعندما وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام الغزوة الاستعمارية الصهيونية الإحلالية التي تستهدف سرقة الأرض، وقفوا ضد هذه الغزوة مدفوعين بالمخزون الكبير من الارتباط بهذه الأرض، وقاوموا بما توافر لديهم من وسائل وأدوات، واعتبروا أنفسهم حراساً لهذه الأرض وحُماة لها.
وعلى الرغم من كل ما بذله الاحتلال البريطاني من جهد لإجبار الشعب الفلسطيني على التخلي عن أرضه، وعلى الرغم مما وفره من حماية ورعاية للحركة الصهيونية فإن تلك الحركة الغريبة والاستعمارية العنصرية لم تتمكن من السيطرة إلا على جزء يسير من أرض فلسطين، والدليل على ذلك أن حجم الأرض التي كان الصهاينة قد استولوا عليها لحظة صدور قرار التقسيم بتاريخ 29/11/1947 لم تكن قد تجاوزت 8% من أرض فلسطين، هذا على الرغم من كل ما منحته بريطانيا للحركة الصهيونية ومؤسساتها من أراضٍ.
وكذلك عندما أعلنت الحركة الصهيونية عن إقامة دولة الاحتلال في منتصف مايو 1948، فإن مساحة تلك الدولة لم تكن قد تجاوزت 14% من أرض فلسطين. وهذا دليل واضح على أن الفلسطيني تمسك بأرضه، ولم يفرط، بل دافع عنها، لكن التحدي كان كبيراً، وسيطر الاحتلال على كل فلسطين بعد مجموعة من الحروب مع الدول العربية.
لكن الفلسطيني بقي يؤمن أن فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة، وتعاهدت أجيال متعاقبة على هذه المفاهيم، لكن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت جهوداً جبارة من أجل تحويل أولويات الفلسطيني، وإبعادها عن الاهتمام بالحق الجماعي في الأرض والوطن، وجعله يتمركز على الحقوق الفردية المرتبطة بالحياة اليومية، ويبدو أن هذه الجهود قد حققت بعض التأثير، وهذا يتطلب من كل الوطنيين الحريصين أن يتصدوا لإنجاز مهمة استعادة الأولوية لمفهوم مركزية الأرض والحق الجماعي فيها، وهذا لا يعني إدارة الظهر لاحتياجات الناس اليومية، ولكن المسألة هي مسألة ترتيب أولويات، مع تأكيد أهمية معالجة كل ما يعانيه أبناء الشعب الفلسطيني من تحديات.