من الثامنة صباحًا حتى منتصف الليل وهي تجاوره على سرير المرض، لم تتركه لحظة، يتحدثان، ويضحكان لتهون عليه مرضه، تحتضن يده بين يديها، حتى لفتت نظر الطبيب المشرف الذي قال لها ممازحًا: "شو يا خالتي أم عاصف ما خلصتوا حب؟!"، فردت عليه: "حب أبي عاصف لا ينتهي من قلبي"، تتركه ساعات الليل الدامس وتعود له صباحًا مع إشراقة الشمس، فيخبرها الطبيب أنه اشتد عليه الوجع والالتهاب ليلًا، فتنظر إلى أبي عاصف وتقول له وهي تبتسم: "اشتد عليه الالتهاب ليلًا أم فراقي عنه؟!"، فكان يضحك وتظهر أسنانه.
"بدأ التعب يشتد عليه، حينها شعرت بالخوف، بدا وكأن لحظة الفراق تقترب مني، والفقد أيضًا، ولكن لا أريد أن أراه أو أسمع صوته، ولكن شعرت بشق في صدري ليدخل شيء من الطمأنينة والسكينة والقبول، فأراد الأطباء تخدير أبي عاصف ووصله بجهاز التنفس الصناعي، وطلبت منهم أن يسمحوا لي بخمس دقائق فقط معه، حضنته مطولًا بين يدي وطلبت منه مسامحتي لتقصيري، وأن يرضى عني وعن الأبناء".
كان حينها صوته لا يُسمع فطلب ورقة وقلمًا وكتب لي كلمات: "أنا أطلب منك أن تسامحينا، فأنتِ منذ اليوم الأول كنت الزوجة والحبيبة والسند الحقيقي، أنا راضٍ عنك دنيا وآخرة".
تركته في الساعة الواحدة ونصف ليلًا لينقل إلى العناية المكثفة، ما إن وصلت البيت حتى شعرت وكأن قلبها موقدًا على النار، حالة من الغليان: "كيف روحت وتركته؟!"، عادت له مسرعة عند السابعة برفقة عاصف ومحمد وأحد الأقارب، فأرادت الدخول إليه فمنعها الممرض لوجود حالة وفاة بفيروس كورونا، لا شعوريًّا دفعت الممرض جانبًا ودخلت إليه، فكان نفسه ضعيفًا جدًّا لا يكاد يتحرك الأنبوب، أمسكت برأسه وقبلته كثيرًا حتى لاحظت توقف الأنبوب عن الحركة ليفارق أبو عاصف الحياة بعد رحلة طويلة وشاقة.
القبلة التي وضعتها على جبينه جعلتها تستذكر تلك القبلة التي طبعها على جبينها يوم خطبتهما، لتقتنص صحيفة "فلسطين" ذلك وتفتح دفتي ذكرياتهما.
عدنا بذاكرتها إلى ما قبل 43 عامًا، عندما تقدم عمر البرغوثي لخطبة سهير، وقال لها على مسمع الموجودين: "شوفي يا بنت الناس، أنا واحد عنيد، عندي الوطن أغلى شيء، وسلاحي ما بفرط فيه، أول أسر لما كان عمري 19 سنة، إني أترك هم القضية والبلد أمر مستحيل، ممكن أستشهد أو أؤسر، بدك تقبليني زوج على السراء والضراء حياكِ الله، وإذا شايفة الأمر صعب عليكِ الله يوفقك".
فردت عليه أم عاصف: "موافقة، معك ع الموت"، رغم أنها كانت لم تتجاوز من عمرها 16 عامًا، ولم تفقه كثيرًا بأمور المقاومة، وما يدور بذهنها هو كيفية بناء بيت وتكوين أسرة وأبناء.
"زرع حبه في قلبي دون إرادة مني، فتبعته أينما صار، وبعد زواجي منه لم يمكث معي سوى ستة أشهر قبل سفره إلى بيروت لإكمال دراسته هناك، اكتشفت فيها أنه رجل إنساني وعاطفي ومعطاء وحنون، استطعت فيها تعلم الكثير منه: الحب من غير أنانية، والحب بعطاء، فكان نعم الزوج والحبيب والصديق والمعلم، ولم يقتصر حبه علي فقط بل شمل أهل وبلده أيضًا".
فعندما كان يؤسر كانت أم عاصف تسمع أهل القرية يقولون: "عندما يسجن الرجال يسجنون عن زوجاتهم وتفتقدهم بيوتهم، إلا أبا عاصف يسجن عن أهل القرية بأكملها؛ فيشعر بفقده الصغير والكبير".
ومنذ أن وطئت قدماها بيته تعلمت منه كيف تزرع محبتها في نفوس الناس، فقبل خروجه من البيت يملأ جيوب جاكيته بالسكاكر الصغيرة، ويوزعها على كل من يمر به في طريقه، صغير أو كبير، رجل أو امرأة، يقول لها وهي تسير بجواره: "شايفة قديش الحلوى صغيرة إلا أنها بتزرع محبة كبيرة في نفوس الناس".
حملت بطفلهما الأول "عاصف" والفرحة لم تسع قلبهما: "ما كنا معطيين فرحتنا لحد"، وقبل سفره إلى بيروت جلست يومين تبكي كأنه لن يعود مجددًا، توادعا بدموع العين، وأنجبت عاصف قبل عودته، تمنت حينها لو تسمع صوته وهو يؤذن له، ولكنه عاد وسنه شهران، فمكث مع عائلته مثلهما وأسره الاحتلال ليحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة.
رغم سوداوية الحكم في عيني أم عاصف حينها كان لديها أمل عميق في أنه سيعود لها يومًا ما، حتى إنها كانت عندما تُسأل عن محكوميته لا تحب ذكرها لأملها في الإفراج والعودة، وفي أول زيارة له بالسجن قال لها: "أنتِ صغيرة والحياة لا تزال أمامك، وحكمي طويل، شوفي حياتك"، فردت عليه: "أنا مش أحسن منك، وراح أنتظرك للعمر كله، فسأنتظرك عند والديك".
في مدة أسره كانت ذاهبة إلى زيارة أحد أقاربها برفقة زوجة أخيها، فوجدتا زوجين متشابكي اليدين، فقالت لأم عاصف: "شايفة هدول كيف عايشين حياتهم؟!"، فأجابتها بثقة: "والله رسالة من السجن بخط أبو عاصف تسوى الحياة كلها"، فجمعهما ارتباط مقدس لا يشوبه شيء، وبعدها أصبح الموضوع الأساسي لزيارتهما عن عاصف وكيف يكبر أمام عينيها.
"مما تعلمته من أبي عاصف قوة الارتباط العائلي، فكنت مدة سجنه البنت البارة بوالديه، ولم أترك البيت ليلة واحدة، حتى إنه في إحدى الليالي تأخرت في السهرة عند أهلي، وعندما عدت وجدت عمي (والد أبي عاصف) قد أغلق الباب بالمفتاح، طرقت عليه ففتح لي الباب واحتضنني وقال لي: "عمرك ما تنامي برا الدار؛ حسينا كأنها بدها تاكلنا".
وتتابع أم عاصف: "شعرا وكأني قد عوضت غياب عمر ونائل (عميد الأسرى)، حتى إني كنت أشاركهما في أعمال الزراعة ومعينة لهما في كل شيء، ووالدته سلمت لي دور قبطان السفينة وقالت لي: "أنتِ صاحبة البيت"، فحملت وقتها حملًا كبيرًا، لم أستطع أن أظهر حزني حتى لا يضعف الجميع أو أخذلهم".
بعد ثماني سنوات ونصف من الأسر أفرج عنه بصفقة تبادل: "الدنيا لم تسعني حينها، رغم سنوات البعد نبتة الحب لم تتوقف عن النمو يومًا، لكنها ترعرعت بالإفراج عنه"، وعندما اجتمعا قال أبو عاصف: "كل يوم بتتربعي على عرش قلبي ومحبتك بتزيد يا أم عاصف".
وأخذت إحدى السيدات تحرضها على أن تهدد أبا عاصف بتركها له وللبيت وعودتها إلى أهلها، وسيلة ضغط عليه ليتنحى عن طريقه، فأجابتها بعد أن ابتسمت في وجهها: "مع احترامي لكِ، ولكن لمن نترك الوطن يدافع عنه؟!، فمحبتي لأبي عاصف تهون عليّ طريقه الصعب، وقد عاهدته من بداية الطريق على أن أكون زوجة صالحة".
لم تشعر يومًا بندم على ارتباطها به؛ فمحبتها له تزيد يومًا تلو الآخر: "محبته تتعملق بداخلي، وازدادت بإنجابي منه بعد عاصف عاصم وإقبال وصالح ويافا ومحمد".
حياة المطاردة
بعد عام ونصف من خروجه من الأسر دخلت العائلة منحى أصعب من الذي عايشوه سابقًا، فأصبح أبو عاطف مطاردًا، وكان جيش الاحتلال يقتحم البيت يومًا بعد الآخر، يعيث فيه فسادًا، ويخرج وهو يجر أذيال الخيبة.
وفي بداية مطاردته أخبرها ذات ليلة أنه لن يعود ليلًا، فشعرت كأنه ذاهب إلى الحرب ولن يعود مرة أخرى: "تعلقت برقبته وبكيت كثيرًا"، احتضنها وقال لها: "شدة وبتزول، وكلي أمرك لربنا، وديري بالك على حالك وعلى الأولاد"، فهكذا كان دائمًا يصبرها.
وتستذكر أم عاصف أنه في إحدى مرات ترتيبها للبيت وجدت مجموعة من الكتيبات قد أحضرها أبو عاصف من لبنان، فأغرتها قراءة أحدها وكان يتحدث عن الشخصية القوية أمام جنود الاحتلال، وكيفية التعامل معهم، ومن يومها عندما يقتحم الجنود البيت تبدأ في الصراخ عليهم، حتى إن إحدى جاراتها قالت لها يومًا: "إحنا ما بنقوم على صوت الجيش بنقوم على صوتك".
أما عاصف وعاصم وصالح الذين كان يشاهدون أسر والدهم أمام أعينهم، واقتياده إلى "الجيب" وهو مغمض العينين، فكانوا يتساءلون: "ليش والدنا بضل بالسجن وما بيحضر معنا العيد ولا بشتري إلنا الهدايا؟!، فتجيبهم: "والدكم يصنع لكم العزة والكرامة والحرية"، تعلق: "زرعت فيهم حب والدهم رغم بعده عنهم، وحب وطنهم".
حاولت أم عاصف بكل قوتها ألا تشعر أبناءها بأي نقص في العيدين وموسم المدارس والأفراح، فكانوا مميزين بملابسهم وشخصياتهم القوية.
شعور الخوف والقلق لم يفارق قلبها مدة المطاردة، وفي كل ليلة قبل أن تغفو عيناها تستودعه عند الله، تستذكر عن تلك المدة: "كان عندما يقدم إلى البيت يأتي من المدخل الوحيد لقرية كوبر (شمال رام الله)، ولكن كان كل شباب القرية يستنفرون لرصد أي تحركات غريبة".
بعد سنتين ونصف من المطاردة أسره الاحتلال وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات ونصف سنة.
وبعد قضائها أصبحت حياته بين أسر وإفراج، وعندما يمر عام دون أسر يقام له احتفال عائلي، ليعيشوا بعدها في "حرب الأعصاب" بسبب الاعتقال الإداري الذي بلغ 15 عامًا حرم فيها معايشة أفراح عائلته وزواج أبنائه فكانت منقوصة، حتى مشاركتهم في أحزانهم في وفاة والديه.
بحثت أم عاصف عن كتف أبي عاصف يوم استشهاد ابنهما "صالح" لتتكئ عليها، فلم تجدها، وقال السجانون لأبي عاصف: "ها قد قتلنا ابنك"، فرد عليهم: "أنا ربيته لهاي المرحلة"، فقالوا: "ولكن قيس ابن صالح من سيربيه؟!"، فأجابهم: "أنا وسأجعله قائدًا على كل أبناء جيله".
آثرت أن تخفي دمعتها عن الناس، ولم تظهرها سوى بينها وبين ربها، وعلى وسادتها التي ستشهد عليها: "تظاهرت بالقوة أمام الناس، فنحن بشر من دم ولحم ومشاعر، أدخل غرفتي لأبكي وأبكي وأخرج مجددًا قوية".
وبعد أربعة أشهر من استشهاد صالح أفرج عن أبي عاصف، وكان متأثرًا لعدم حضوره عزاء ابنه، فبكى يومها بكاء غير عادي.
"أبو عاصف الرومانسي"
"43 عامًا جمعتني بأبي عاصف المجاهد المعطاء الحنون، فرغم كل الظروف التي كنا نمر بها كان لا ينسى ذكرى زواجنا ويحضر لي الهدايا، ولما نخرج معًا "يشنكل" إيده بإيدي كأنا مخطوبين، ما عمره زعلني أو فكرت أروح أحرد لبيت أهلي، لم يرفض لي طلبًا، حتى راتبه يضعه في يدي ويأخذ مصروفًا مني، ولو صرفته كاملًا لا يسألني عنه" تتحدث أم عاصف.
وتستذكر أنه ذات مرة كانت تقف معه وطلبت منه الذهاب لزيارة والدتها، فقال لها: "روحي واقعدي عندها شهرين"، هزت رأسها وقالت له: "شهرين يا أبو عاصف؟! خليك حافظ شو حكيت"، وخرجت وهي في منتصف الطريق لحق بها: "شعرت كأنك ذاهبة لأهلك زعلانة؛ فهبت النار في جسدي".
وكان عندما يرى دمعتها يقول لها: "هدول دمعاتك بحرقوني، نقطة ضعفي"، وتراه زوجًا مثاليًّا تتمناه أي فتاة.
تعالى أبو عاصف على جراحه طيلة السنوات، كان كالجبل الأشم، وفي آخر تبليغ وصل إليه قال له جنود الاحتلال: "أنت الوحيد الذي لم نستطع أن ندخل لك من طريق بيتك أو أولادك".
توفي أبو عاصف بين يديها، تمالكت نفسها، ورفعت الكمامة على عينيها حتى لا يرى أحد دموعها، لم تمر 10 دقائق على وفاته حتى ازدحم المستشفى بمحبيه يبكون ويصرخون: "وين رحت ودشرتنا يا بوي؟!"، فصرخت بهم: "من يصبر الآخر أنا أم أنتم؟! سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) مات وترك خلفه أمته، وأبو عاصف زرع وأنتم مداده، فمن يحبه يمشِ على دربه".
ودعته وهمست في أذنه: "العهد هو العهد، والقسم هو القسم، ونحن على دربك حتى يأخذ الله أمانته"، فهذه كانت نهاية قصة "معك على الموت".