تُجري بعض الفصائل الفلسطينية انتخابات داخلية لاختيار قياداتها، ويدور جدل حول جدوى هذه الانتخابات، هل هي آلية من أجل تصعيد قيادات قادرة على تمثيل قواعدها؟ أم هي آلية تساعد قيادات الفصائل على تجديد شرعيتهم وتأبيد سيطرتهم على فصائلهم ومنع التغيير؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى حديث طويل، سنضع هنا بعض المقدمات لهذا الحديث، إذ لا بد من تأكيد أن الانتخابات لا تأتي دائمًا بنتائج إيجابية، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، ومنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، جاء بالانتخابات، وقبله هتلر وموسوليني حصلا على مواقعهما القيادية بالانتخابات، وما زال نتنياهو الفاسد والمُفسِد يحصل على أعلى الأصوات، المقصود هنا أن مجرد حدوث الانتخابات، على أهمية الانتخابات، لا يُشكِّل ضمانة ومعبرًا للوصول للأفضل، بل قد تأتي النتائج سلبية بكل ما تعني الكلمة من معنى.
إن مجرد حدوث الانتخابات داخل الأحزاب لا يعني شيئًا، بل يُبقي الأبواب مفتوحة على كل الاحتمالات، وحتى تكون ثمار الانتخابات جيدة لا بد من توفر العوامل الآتية: نوعية النظام الانتخابي، ومدى نُضج السلوك التصويتي وقدرة الناخبين على التمييز بين الأشخاص المرشحة، وطبيعة البنية التنظيمية الإدارية للحزب، وطريقة الحصول على الموارد المالية والتصرف فيها.
تتحكم نوعية النظام الانتخابي فيمن يصعد إلى أعلى، ومن لا يُسمح له بالصعود، كما تسمح نوعية النظام الانتخابي بوصول تأثيرات القواعد إلى أعلى أو منع تأثيرها في اختيار القيادات العليا، على سبيل المثال إذا كان النظام الانتخابي بسيطًا، ويسمح بوصول تأثير أصوات القواعد إلى أعلى الهرم، حتى لو كان الانتخاب على أكثر من درجة، كما هو الحال في حركة حماس، حيث تتدرج الانتخابات إلى أن تصل إلى اختيار رئيس الحركة.
وتجد حركات أخرى، مثل حركة فتح، تُجري الانتخابات على مستوى القاعدة، ويتم اختيار قيادات الأقاليم، لكن يجري التحكم في اختيار أعضاء المجلس الثوري وأعضاء المؤتمر العام بطريقة تجعل رئيس الحركة قادرًا، بشكل كبير، على التحكم في انتخاب أعضاء اللجنة المركزية.
وفيما يتعلق بمدى نُضج السلوك التصويتي لدى الناخب، فإنه في كثير من الحالات لا يستطيع الناخب التمييز بين الكفاءات، لماذا؟ لأنه في حركة مثل حركة حماس، إذ ما زال الجانب السري قائمًا في بعض الجوانب، فإن أصحاب حق الاقتراع لا يعرفون في الكثير من الأحيان إسهامات المرشحين، فضلًا عن التمييز بين كفاءاتهم، وبالتالي لن يكون تصويتهم في محله.
وتساهم البنية التنظيمية الإدارية للحزب، فيما لو كانت تُعبر عن قطاعات عمل متوازنة، تحكمها لوائح وقوانين ناضجة في إفراز مؤسسات قيادية متوازنة وناضجة، لكن لو كانت البنية التنظيمية متداخلة كما هو الحال في حركة حماس، إذ ينقسم التنظيم إلى مناطق جغرافية محددة، ولكن في داخل كل منطقة يوجد تنظيم عسكري ينتظم في صفوفه عدد كبير من أبناء الحركة في تلك المنطقة، فماذا سيفعل هؤلاء المنتظمون في البنية العسكرية؟ هل سيصوتون بشكل حر؟ أم سيتبعون توجيهات قياداتهم الحركة؟ أم سيتبعون توجيهات قياداتهم العسكرية؟ لا شك أن هذه وضعية مُحيِّرة، وتسمح بإحداث إرباك شديد، وأحيانًا تنافس غير محمود.
وفي حالة حركة حماس على وجه التحديد، لو نجح الجناح العسكري في إلزام عناصره وجهة تصويتية واحدة، فإنه سيستطيع حسم نتائج الانتخابات بشكل كامل؛ وذلك لأن الجناح العسكري هو أكثر قطاعات حركة حماس تنظيمًا وفاعلية.
لكن لو جرى ترتيب أوضاع التنظيم على أساس قطاعات، بحيث يقوم العضو في التنظيم بانتخاب داخل قطاعه الخاص به، وجرى تخصيص مقاعد محددة لكل قطاع في مؤتمر عام يجمع قطاعات الفصيل كافة، فإن الانتخابات ستنتهي إلى مؤتمر عام متوازن وعبر عن كل القطاعات التي تتشكل منها حركة حماس.
لكن هذا له مشاكله أيضًا، فحركة فتح لديها مؤتمر عام، ويقوم رئيسها بتعطيله من خلال اختيار أغلبية خاصة لصالحه في هذا المؤتمر، وتنحية أو فصل خصومه السياسيين من هذا المؤتمر الذي يمثل قطاعات الحركة المختلفة.
وتشكل طريقة الحصول على الموارد المالية، والتصرف فيها، مسألة في غاية الأهمية، حيث تحصل الفصائل في الكثير من الأحيان على الأموال من مصادر غير معلنة، وهذه المصادر تُفضِّل أن تُعطي الأموال لأشخاص محددين؛ الأمر الذي يُعلي شأن هؤلاء الأشخاص في فصائلهم، لأنه يمرر عبرهم الأموال، إما لثقته بأمانة هؤلاء الأشخاص، أو لأنه يريد أن يرفع شأنهم داخل فصائلهم، وهذا يجعلهم أصحاب نفوذ داخل فصائلهم، فيلتف الناس حولهم، وينتخبوهم، بل ربما يقومون بدور مقاول جلب أصوات لصالحهم.
باختصار، إجراء الانتخابات ليس دليل عافية وتطور في كل الحالات، بل ربما يؤدي إلى عكس ذلك، خاصة إذا أصبح حجم الفصيل أكبر من قدرة هيكله التنظيمي على الاستيعاب، وإذا أصبحت مصالح وطموحات واولويات مراكز القوى داخل التنظيم أكبر مما يستطيع التنظيم توفيره لنُخبه القيادية.
إن التنظيم العاقل هو الذي يقوم بإجراء المراجعات أولًا بأول، ويستخلص العِبَر، ويُجدد هياكله وبُناه التنظيمية بما يُحقق لم الشمل، وتوزيع عادل للموارد والمواقع، ويُجري كل هذا من خلال النقاش العام، وبأكبر قدر من الشفافية.
قد تُجري النُخب القائدة في الفصيل تعديلات على اللوائح التنظيمية تكفل تمتين الهيمنة، وقد تلجأ لإحداث تسويات مع بعض الشرائح، أو تقوم باحتواء شرائح أخرى، كل هذا قد يُفيد مؤقتًا، ولكن الحلول الاستراتيجية لن تأتي إلا من خلال تحقيق العدالة في توزيع الموارد والمواقع، وما دون ذلك سيبقى يدور في إطار رغبة القواعد التعبير عن إرادتها، وطموح النُخب القيادية تهميش تلك الإرادة.