إن القانون الذي يُنظِّم العملية الانتخابية قد أغلق الباب أمام المستقلين، وعزز فرص الفصائل، لكن المتابع يلاحظ وجود رغبة كبيرة لدى أعداد ليست قليلة من المستقلين (والتعبير الأدق هو المرشحون من خارج الفصائل) في خوض العملية الانتخابية، ويعتقد بعضهم أن لديه فرصة معقولة للفوز.
هؤلاء المستقلون أنواع، بعضهم جاد، وآخر يسعى إلى الوجاهة، وفريق ثالث انتهازي، لكن هذا ليس موضوعًا للنقاش، لأن هذه التقسيمة تنطبق على الفصائل والأحزاب وكل التجمعات، ولن تكون مفصلية في التجربة الانتخابية، وسأكتفي في هذا المقال بالكتابة عن محاولات الجادين من المستقلين.
هنالك مجموعة من المشاكل الجوهرية التي تواجه شريحة المستقلين، وستجعل فرصهم في الفوز ضعيفة، وأثر من ينجح منهم في الانتخابات شبه منعدم، فما هذه المشاكل التي تواجههم؟ يمكن القول إنها تتمثل في: ضعف معرفي ببنية السلطة وصعوبة تغيير اتجاهها، وبُعد ميداني مرتبط بجهل موارد السلطة وعلاقات القوة داخلها، وكيفية امتلاك النفوذ فيها، وتكوين القوائم وحساسيات المناطق، والافتقار للخبرة والإمكانات في التعامل مع الجماهير وتحريكهم.
فيما يتعلق بالضعف المعرفي ببنية السلطة وصعوبة تغيير اتجاهها يتجلى هذا الضعف المعرفي في عدّ هذه الشريحة الوجود في البرلمان يمنح صاحبه قوة تمكنه من التغيير، وسيجعلهم فاعلين في الحيز السياسي والعام، وهذا غير صحيح، بل يمكن القول إن الذي لم يكن قويًّا قبل وصوله للبرلمان لن يُصبح قويًّا بعد فوزه في الانتخابات، لماذا؟
يرجع السبب في ذلك إلى أن النظام السياسي الفلسطيني ليس نظامًا ديمقراطيًّا بالمعنى الصحيح، وعناصر القوة ومواردها والقدرة على تفعيلها ليست موجودة داخل المؤسسات، بل خارجها بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ومالكو القوة والنفوذ هؤلاء يستخدمون المؤسسات أدوات للفعل لا أكثر ولا أقل، وفي الوقت نفسه لو فاز غيرهم فإن لديهم قدرة على وضع العصي في دواليب هذه المؤسسات، ومنعها من الفعل والتفاعل والإنجاز.
لكي أُقرّب الصورة، تجد أن أي بلد غربي تحدث فيه الانتخابات، فإن السلطة تنتقل فورًا إلى الفائز، ويبدأ العمل بسلاسة؛ والسبب في ذلك يتمثل في أن هنالك توازنًا في القوة، إضافة إلى ضمانات تحمي نتائج الانتخابات وعمل المؤسسات، أما في واقعنا العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص، فهذا غير متوافر، والفريق الحاكم يسيطر على المؤسسات، ويُخضعها لهيمنته، ويملك كل مقومات تعطيلها في الوقت الذي يريد.
وبناءً عليه، إن التعويل على خوض الانتخابات، والحصول على مقاعد في البرلمان من أجل إحداث التغيير هو في غير محله، وعلى كل من يريد التصدي للعمل السياسي أن يهتم أولًا بامتلاك القوة التي تجعله قادرًا على حماية إرادة الجماهير التي منحته ثقتها، والمقصود بالقوة هنا معناها الواسع، وليس الضيق الذي يقتصر على السلاح وأجهزة الشرطة والمخابرات.
أما البعد الميداني فلا أحد يعرف كيف تعمل هذه السلطة، وكلنا يذكر عام 2006 إذ تفاجأ الجميع بأن حسابات السلطة في البنوك قد تصفّرت، ولم يعرف أحد كيف كان يُجبى المال؟ ولا من أين تأتي المساعدات؟ ولم يجرؤ أحد على تحميل أصحاب الشأن المسئولية، بل إنهم عدوا ذلك دليلًا على كفاحهم من أجل إسعاد الشعب، وطالبوا الحكومة الجديدة بالقيام بالواجب المُلقى على عاتقها.
وفيما يتعلق بتشكيل القوائم الانتخابية فهذه معضلة المعضلات للمستقلين؛ لأنهم لا يعرف بعضهم بعضًا جيدًا، وكذلك لم يجربوا في الغالب التعامل مع المزاج العام للشارع الفلسطيني بالضفة وغزة في لحظة حساسة، وسيجدون أنفسهم يتلقون المفاجآت الواحدة بعد الأخرى، دون أن يضعوا حلولًا لأي منها.
أما تعبئة الجماهير، واستمالتهم، وتحريكهم يوم الانتخابات باتجاه الصناديق؛ فإن المستقلين لا يملكون الإمكانات المادية التي تمكنهم من نقل المترددين إلى الصناديق بالسيارات، كما لا يستطيعون تجهيز فعاليات ضخمة تُظهِر هيبتهم أمام الناس، وبالتالي الثقة بهم وبإمكاناتهم.
إن أكثر ما يمكن أن يفعله المستقلون -لو تمكنوا من خوض الانتخابات بمجموعة من القوائم- يتمثل في تشتيت الأصوات، وربما يرفع هذا مكانة هذه الكُتَل البرلمانية، لو نجحت مجموعات صغيرة ومؤثرة من هؤلاء المستقلين في الاستفادة من حاجة حزب كبير لأصواتها في تشكيل الحكومة، لكن لو توافقت فتح وحماس على الحكومة بعد الانتخابات؛ فإن هذه القوائم لن تستفيد من هذه الميزة، التي هي مشروطة بطبيعة الحال.
تجدر الإشارة إلى أن ما تقدم ذكره يجب ألا يُحبط أحدًا، وهو لا يعني بحال من الأحوال أن إمكانية التأثير والتغيير منعدمة، ولكنه يهدف إلى توضيح صورة المشهد، ويدعو أصحاب الرغبة في التأثير إلى أن يسلكوا الطريق الصحيح نحو التغيير.
وهذا يتطلب وضع الحصان أمام العربة، بمعنى أن يسعى الراغبون في التأثير إلى امتلاك القوة السياسية، بتكوين شبكات واسعة من الفاعلين في الأوساط الاجتماعية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه القادرين على الاستغناء عن السلطة وخدماتها.
كل من يريد أن يؤثر في الواقع يجب أن يمتلك قوة على الأرض قادرة على موازنة قوة الطبقة السياسية، والجماهير، إضافة إلى كراسي البرلمان التي هي جزء من هذه القوة، وليس أكثر.