يحظى موضوع حماية المرأة وحقوقها باهتمام كبير من مراكز أبحاث ومؤسسات غير حكومية، وتجري عمليات سن قوانين تحت اسم حماية حقوق المرأة أو الأسرة من العنف، وتحظى هذه العملية بدعم من الأمم المتحدة وعدد من الدول والمؤسسات الغربية.
ويؤكد مؤيدو سن هذه القوانين أن المجتمع الفلسطيني مجتمع ذكوري يظلم المرأة، ويحط من شأنها وقيمتها، وينطلقون في تبني هذه المواقف من دراسات استطلاعية يُجرونها بين الحين والآخر تُظهر وجود عنف، إضافة إلى رصد الحالات التي فيها ممارسة عنف أو قتل ضد الفتيات، ويطالبون الدولة (السلطة الفلسطينية) بالتدخل في حماية حقوق المرأة من العنف عبر الأدوات القانونية والشرطية.
سيحاول هذا المقال تجنب نقاش مسألة العنف وذكورية المجتمع، وسينطلق من افتراض أن المرأة فعلًا تلقى العنف، وتحتاج للحماية، وسيركز على بحث مسألة مدى قدرة الدولة وأدواتها، في واقعنا الفلسطيني، على إيجاد حلول لما تلقاه المرأة والأطفال داخل الأسرة من عنف، وأيما أقدر على التصدي لهذه المسألة أدوات الدولة أم آليات المجتمع؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من توضيح طبيعة الدولة (السلطة الفلسطينية) وقدراتها في العمل في المجالات الثلاث الرئيسة للعمل داخل الدولة: وهي الحيز السياسي السلطوي، والحيز العام، والحيز الخاص.
لم تنشأ الدولة في واقعنا العربي، فضلًا عن واقعنا الفلسطيني، نشأة طبيعية، بمعنى أنها لم تولد نتيجة تفاعلات داخلية، بل تأسست في مرحلة الاستعمار الغربي عندما قسّم بلداننا، ونصّب نفسه سلطة انتداب في العديد من البلدان، أو من طريق الاحتكاك بالتجربة الغربية والرغبة في تقليدها، وأخذنا الشكل دون المضمون.
ما المقصود بهذا الكلام؟ لقد نشأت الدولة في التجربة الغربية في مرحلة تضافرت فيها مجموعة أشياء، وهي: أموال وصناعات وتجارات وطبقة رأسماليين مسيطرة، وتراجع لمكانة الأسرة في عهد الثورة الصناعية وما بعدها، وولادة نقابات ومؤسسات غير حكومية وأحزاب وقوى جديدة خاضت نضالًا ضد الطبقات المسيطرة، وتوصلت إلى عقد اجتماع كفل الحقوق بالتدريج، وعلى إيقاع النضال المتواصل من أصحاب الحقوق المغبونة، وفي تلك المرحلة حوّلت الدولة الكثير من الوظائف والأدوار التي كان يقوم بها المجتمع إلى مؤسساتها التي كانت ناشئة ثم تجذرت وتعمقت في سيطرتها واستحواذها على الأدوار والوظائف.
وسيطرت الدولة في التجربة الأوروبية على الحيز العام في بداية أمرها، وتركت الحيز الخاص (أي الأُسرة) لكي يختار الناس ما يناسبهم فيه، لكن من طريق النضالات المتكررة والممتدة استطاعت القوى الجديدة تخصيص مساحة معتبرة لها في الحيز العام، تشارك من طريقها في التنمية، والضغط، وحماية الحقوق ... إلخ.
وبقي التدافع مستمرًّا في التجربة الغربية، حيث وسعت الدولة دورها ومسئولياتها، داخل المجتمع، بعد الحرب العالمية الثانية، فيما عُرف في ذلك الوقت بدولة الرفاهية، لكن الدولة في الغرب تراجعت، وقلّصت دورها في سبعينيات القرن الماضي عندما برزت أفكار الليبرالية الجديدة، وميل الدول لخصخصة الكثير من الخدمات.
لكن بقي تدخل الدولة فيما يتعلق بحماية المرأة والأطفال داخل الأسرة بارزًا وقويًّا، نظرًا إلى ما طرأ على تركيبة الأسرة، وقناعات الأزواج بتشكيلها ودورهم فيها، بقي هذا الدور كبيرًا من ناحية التدخل في فض النزاعات بطريقة تشمل كل أشكال العلاقة بين الأزواج بدءًا بالأمور المالية وانتهاءً بالعلاقات الحميمية ومرورًا بكل أشكل العلاقة، ومنها التنازع على حضانة الأطفال، ومع الوقت امتلكت الدولة خبرات كبيرة، ووظفت إمكانات هائلة لفض المنازعات التي تنشأ داخل الأسرة.
في حالتنا الفلسطينية لدينا سلطة هشة، لا تملك موارد، بل تعيش على المساعدات الخارجية، ولا تمتلك مؤسسات قوية وفاعلة، ولم تنشأ بناءً على تفاعلات القوى الداخلية بل اتفاق مع الاحتلال، وهي عاجزة عن العمل بكفاءة في الحيز السياسي والسلطوي، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، ولا مجال لذكرها هنا، ومن يذهب إلى مراكز الشرطة ومؤسسة القضاء يجد حجم الزحمة وتكدس القضايا وتأخير بتها، حتى إن مراكز الشرطة لا تستطيع الحسم في النزاعات التي تنشأ في الحيز العام بين الناس، وكثيرًا ما تستعين بلجان الإصلاح العائلية والفصائلية من أجل فض المنازعات في الحيز العام، فكيف ستتمكن مؤسسات الدولة الفقيرة وغير الكفؤ من التدخل في الحيز الخاص (داخل الأسرة)؟!
لا شك، لن تستطيع، وإن حاولت فإن المشاكل ستتفاقم، نظرًا إلى حساسية هذه الموضوعات وتشابك أبعادها بين الاجتماعي والديني والنفسي والأخلاقي والمالي والتربوي ... إلخ.
لكن ما العمل؟ هل نترك المشاكل داخل الأُسَر دون حل؟ قطعًا، لا! بل يجب التدخل، ولكن من طريق آليات عمل تنشأ في أوساط المجتمع، وتعتمد على تحكيم الأهل في الدائرة المحيطة، وإحياء قيم التراحم داخل المجتمع بتأسيس شبكات واسعة داخل الأحياء، وفي دواوين العائلات، وبالتنسيق مع مؤسسات رسمية وغير حكومية، وأقسام علم النفس والخدمة الاجتماعية في الجامعات، لتدريب وتأهيل كوادر تنتشر في أوساط المجتمع، وتقوم بعمل تطوعي قادر على التثقيف والتدخل وإصلاح ذات البين في المحيط الذي تعرفه جيدًا.
ما خطورة تدخل الدولة في فصل المنازعات بين الأب وابنه أو بنته أو زوجته؟ باختصار شديد إن تشجيع الابن أو البنت أو الزوجة على تقديم شكوى ضد أحد أفراد الأسرة، وعلاج هذه الشكوى بالاعتقال والتوقيف يجعلان التعايش فيما بعد أصعب، وهذا يجدد المشاكل، وتزداد خطورته في حالتنا لأن عبء إعالة الأسرة في الغالب يقع على الرجل، والدولة لا تساهم مساهمة تجعل الابن أو البنت أو الزوجة قادرين على الاستغناء عن الأسرة.
وبناءً عليه يُفضّل اللجوء إلى تشكيل شبكات واسعة للتثقيف الأسري، وإصلاح ذات البين على أساس التحكيم الأهلي (حكم من أهله وحكم من أهلها)، وإشاعة قِيَم التراحم والعيش بالمعروف، وفي الحالات المستعصية يلجأ المتضرر داخل الأسرة إلى إجراءات قانونية.
ويمكن أن تساهم الجامعات والمساجد والأندية والمؤسسات غير الحكومية ولجان الأحياء والبلديات في تشكيل هذه الشبكات واللجان لتعزيز الأخلاق والقيم، والتدخل من أجل إصلاح ذات البين وحل المشاكل.