إن أكثر ما يُساهم في إعاقة تقدم المجتمعات هو افتقارها للسلم المجتمعي والاستقرار، وأكثر ما يُهدِّد السلم والاستقرار هو غياب العدالة، ويمكن القول إن ما يُعرف باسم (المشاجرة)، ثم "المصالحة" دون إعادة الحق لأصحابه، ودون إزالة أسباب الشجار، هو التجسيد العملي لغياب العدالة، وبالتالي الوصفة جاهزة لتدهور حالة السلم الأهلي.
كيف ذلك؟ لقد أصبح ما يُعرف بـ(المشاجرة) نهجًا متغلغلًا في الكثير من المجالات، ومنها الاعتداءات التي تحدث بين الجيران، أو البائعين في الأسواق، والمارين في الطرقات، وكذلك يوجد نوع آخر من المشاجرات، وهي تلك التي تحدث بين زملاء العمل سواء كانوا قرناء أم رئيسًا ومرؤوسيه، إضافة إلى ما يحدث -يا للأسف- على الساحة السياسية العامة، وفيما يلي توضيح للمجالات الثلاثة التي يتغلغل فيها نهج المشاجرة.
يحدث بين الجيران أو الأقارب، أو البائعين في الأسواق، وكذلك المارة بالطرقات، أن يعتدي شخص أو مجموعة على شخص أو مجموعة أخرى، ويفعلون هذا ربما بسوء نية أو بمحض الصدفة، وبعد أن ينالوا من غريمهم يتوجهون فورًا إلى مركز الشرطة، ويقدمون شكوى ضد من وقع عليه الاعتداء، فإذا ذهب المُعتَدَى عليه لتقديم البلاغ ضد من أهانوه، يجد نفسه في المعتقل، ويُوضَع الجاني والمجني عليه في السجن، وتُسجَّل القضية على أنها مشاجرة، ويُطلب من الطرفين التصالح حتى يخرجا من المعتقل، فيضطر الضعيف تحت ضغط الاعتقال وربما بعض لجان الإصلاح إلى توقيع ورقة مصالحة، حتى يخرج من السجن.
وهكذا، لا تُكلف منظومة إنفاذ القانون نفسها عناء التحقيق، والكشف عن الحقيقية، وبذلك يضيع حق المظلوم، وينجو الظالم من العقاب، ويبدأ استعداده لعدوان جديد لأنه أفلت من العقوبة عندما اعتدى في المرة الأولى، ويتعلم منه غيره، خاصة من أصحاب النفوس الوضيعة، ويفقد المجتمع ثقته بمنظمة إنفاذ القانون وتحقيق العدالة، ويُصبح الناس أكثر ميلًا لأخذ حقوقهم بأيديهم.
وإذا تصادف هذا الأمر مع توافر السلاح في أيدي أشخاص من ذوي النفوس الضعيفة، أو الذين يشعرون بالحماية الفصائلية، فإنهم سيستخدمونه في الافتراء، وكذلك فيما يعتقدون أنه استرداد للحقوق، ولهذا لا بد من إلغاء منطق المشاجرة من كل مراكز الشرطة، والعمل على إجراء تحقيق، ومعاقبة المعتدين، وإعادة الحقوق لأصحابها.
أما المجال الثاني الذي يتغلغل فيه نهج المشاجرة فيتمثل في أنه في حال اكتشاف تقصير أو فساد أحد الموظفين، سواء كان رئيسًا أم كان مرؤوسًا، فإنه يبادر إلى تعكير الأجواء، والادعاء بأنه مُستَهْدَف لأسباب شخصية ممن كشف فساده، وفي الكثير من الأحيان تتحول القصة من قضية فساد يجب أن يُعاقب المُتَلبِّس فيه إلى مشاجرة، أو "طوشة"، وتبدأ الضغوط على المحترم والحريص على المصلحة العامة لكي يخف عن الفاسد، خاصة إذا كان الفاسد لذيذًا ويُجيد التعامل مع الناس، أو تقديم "خدمات" لهم.
وهكذا يضيع مفهوم الحق والباطل، وتتداخل المسائل في بعضها، وتتعطل القدرة على إصلاح الفساد، ويتحول الأمر إلى إصلاح ذات البين بين الفاسد الذي يُجيد الاستفادة من الثغرات، وبين المُصْلِح، ويؤثِر الناس في النهاية الراحة، والابتعاد عن وجع الرأس، وينتهي الأمر إلى استمرار الفاسد في فساده، وإحجام المحترم عن القيام بواجبه في كشف الفاسدين، ووضع حد لهم ولفسادهم، والسبب في ذلك يعود إلى أن كل محاولاته ستنتهي بِصُلْحة.
هذا لا يعني أنه لا توجد تجارب ناجحة في مجال إصلاح الفساد، لكن يجب الانتباه إلى أن منطق المشاجرة والمصالحة آخذ في الانتشار، ويتغذى عليه الفاسدون والمفترون.
والمجال الثالث، والأكثر خطرًا الذي يسوده -يا للأسف- نهج المشاجرة، هو المجال السياسي، ماذا يعني هذا الكلام؟ يحدث أن يقع حزب ما في أخطاء، سواء صغُرت أم كَبُرَت، فيواجه الانتقاد، وبدلًا من تعديل أخطائه، وإصلاح ذاته، يبدأ في التربص لخصمه، ويقتنص أي خطأ لغريمه السياسي، وربما يُحمِّل سلوكًا معينًا من جانب غريمه ما لا يحتمل من المعاني، لكنه يُصر على تلويث خصمه، فإذا لم يقتنع الناس بالمحاولة الأولى، فإن هذا الفريق يلجأ لمحاولة ثانية وثالثة وعاشرة، المهم عنده تصديع رؤوس الناس، ومنعهم من رؤية الصواب والخطأ، ووضعهم في حالة من الحيرة، حتى لا يعرفوا الحق من الباطل، ويتساوى أمام أعينهم الوطني والخائن، والصالح والطالح، والمفسد والمصلح.
ويُصر هذا النوع من الساسة على الادعاء، كلما انتقد، أنه لا يُخطئ، فإن كان الخطأ واضحًا فإنه ينتقل إلى الادعاء أن منتقديه لا يفعلون هذا ابتغاء الإصلاح، وإنما بسبب الخصومة السياسية، وإذا وقعت عينه على خطأ عند خصمه فإنه يبتهج؛ لأن هذا الخطأ يفتح أمامه الباب واسعًا للتهرب من المسئولية، وحينها يقول بملء الفم: (لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك)، وفي الكثير من الأحيان يلجأ هؤلاء لإلقاء المسئولية عما ارتكبوه من جرائم على غيرهم من الأحزاب والفصائل، وربما من أشهر الأمثلة على ذلك موضوع السبب في انتشار الاستيطان في الضفة الغربية، هل التنسيق الأمني أم الانقسام؟! وكذلك موضوع الانقسام نفسه، ومن المسئول عنه، هل فتح أم حماس؟ لقد تحولت هذه المواضيع إلى مشاجرة يعجز كثيرون من الناس عن فهم الجاني من الضحية فيها، فيعممون المسئولية، وهكذا تضيع الطاسة.
إن المجالات الثلاثة التي يتغلغل فيها نهج المشاجرة خطرة جدًّا، ويجب الوقوف عندها، ووضع حد لها، لا يُعقل أن تتبع منظومة إنفاذ القانون وتحقيق العدالة نهجًا يُريحها، ويُجبر الضعيف على التنازل تحت ضغط القهر بمساواته مع الجاني، وينطبق الأمر على منظومات العمل الإدارية، أما في المجال السياسي فهذا يحتاج إلى نضال متواصل من مثقفين يتحملون المسئولية الوطنية.