في كل محطة سياسية فلسطينية يظهر إلى العلن نقاش قديم جديد بشأن انتهاء اتفاقية أوسلو من الواقع أو بقائها في كل التفاصيل، وقد عاد ذلك الجدل منذ تحديد موعد الانتخابات التشريعية في 22 مايو 2021. والغريب أن هذا الجدل يحمل في طياته تناقضات غريبة من كلا الفريقين: مؤيدي أوسلو ومعارضيها؛ فتارة يرى بعضهم أنها انتهت نظرًا إلى فشلها في تحقيق أهدافها الفلسطينية منذ عام 2009، وفي الوقت ذاته يحتج أولئك بأن تفاصيل الحياة لا تزال تمضي سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا بناء على أوسلو وملحقاتها.
ولعل ما توصلت إليه دراسة ماجستير في جامعة النجاح الوطنية بعنوان: "أثر اتفاق أوسلو على الوحدة الوطنية الفلسطينية وانعكاسهُ على التنمية السياسية" يؤكد أن السلطة التي نتجت عن الاتفاق "لم تكن تسعى إلا لتحقيق مصالح شخصية، متمثلة في مصالح القائمين على هذه السلطة، ولم تنصب بأي شكل من الأشكال على مصلحة إقامة وحدة وطنية"، ويشرح لماذا كانت أوسلو سببًا في الفرقة والاضطراب الداخلي، وحالة من التناقض الوطني بين حق المقاومة للاحتلال والحاجة لحمايته بناء على أوسلو، وبين حرية الإرادة الوطنية الداخلية وأولوية إرادة العدو التي تنص عليها بنود الاتفاقية، حاجة أمنية أو معايير اقتصادية تضمن له حق التحكم في أدق التفاصيل والمعايير.
لا يمكن أن تتضح الصورة أو تتفكك عقد تلك الجدلية، إلا بالنظر إلى أبعاد أوسلو الثلاثة التي تشمل البعد السياسي والبعد الأمني والبعد الاقتصادي، وسنبدأ بالأخير أولًا.
البعد الاقتصادي تمثله اتفاقية باريس التي هي عبارة عن ملحق اقتصادي بالاتفاق، وهي لا تزال تتحكم بمجمل العلاقة الاقتصادية الفلسطينية، فتربطها بإرادة الاحتلال وتمنحه الأفضلية الاقتصادية في الاستيراد والتصدير، في محافظات غزة والضفة، سواء بسواء، وبحسب الاتفاقية إن الأراضي الفلسطينية هي سوق استهلاكي أول للبضائع الإسرائيلية، والمعابر الإسرائيلية هي ممر وحيد للاستيراد من أي دولة بالعالم، وهذا يفسر مسألة المقاصة التي تظهر بين الفينة والأخرى، وتمثل الضرائب الجمركية التي يجنيها الاحتلال من المعابر فيدفع للسلطة حصتها أو يحجبها بحسب إرادته.
البعد الأمني القائم في الضفة الغربية على منطق التنسيق الأمني، بمعنى تقديم معلومات وخدمات أمنية للاحتلال، ومنع أي نشاط فلسطيني مقاوم له، أما غزة فلم يعد الشق الأمني قائمًا بعد دحر الاحتلال عنها في سبتمبر 2005، تحديدًا بعد تولي حركة حماس مسؤولية الحكومة بعد انتخابات 25 يناير 2006، لكنه استعاض عن ذلك بالحصار الأمني لقطاع غزة برًّا وبحرًا وجوًّا، تحت غطاء دولي مما سميت الرباعية الدولية وكذا الرباعية العربية.
أما البعد السياسي فإنه بقي منه الشكل دون المضمون، فالحكومة الإسرائيلية منذ 2009 قد قطعت أي علاقة سياسية مع السلطة، وحصرتها في البعد الأمني، وتغولت عليها فيه عبر إدارة النشاط الاقتصادي للسكان في الضفة الغربية من طريق مكتب المنسق في الجيش الإسرائيلي.
إذا كانت أوسلو هي اتفاق إطار محدودًا بخمس سنوات قد انتهت رسميًّا في سبتمبر 2009، فإن ما نتج عنها من كيان فلسطيني قد تحول إلى شكل أقل من حكم ذاتي وأكثر من مخيم كبير تحت الاحتلال، ويخطئ بعضٌ عندما يعرف الكيان الفلسطيني على أنه دولة تحت الاحتلال، فهو لا يزال شعبًا تحت الاحتلال، وهذا ما كان عليه الوضع منذ أكثر سبعة عقود ولا يزال بحسب كل القرارات والقوانين الدولية.
إن تلك الجدلية تناقض فيها حتى أصحابها، فعلى مدار أكثر من عقدين من انتهاء مدتها (5 سنوات) ما انفك أعلام أوسلو مثل أبي مازن (وهو من وقع الاتفاق بصفته أمينًا لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير) والراحل صائب عريقات كبير المفاوضين يعبرون عن مواقف تعد أوسلو مجرد حبر على ورق.
ومما لا شك فيه أن إرادة الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال قد كسرت قيود أوسلو في مراحل متعددة، ولا تزال قوى المقاومة تمتلك زمام المبادرة رغمًا عن قيود أوسلو الأمنية، وإذا كانت أوسلو انتهت من وجهة نظر الاحتلال فإن السلطة لا تزال ترى أن شرعية أوسلو الدولية هي ما يمنحها قوة الحكم والتحكم، وهذا ما ظهر في سلوكها ضد قطاع غزة، أيضًا 27 عامًا من أوسلو قد خلقت واقعًا اقتصاديًّا استطاع الاحتلال بفضله ربط تفاصيل الدورة الاقتصادية والتجارية به، من طريق خلق مصالح مشتركة مع دول عربية وإقليمية تمنع أي استقلالية فلسطينية حتى مع جيرانهم العرب.