تُطرح الانتخابات وفق نظام التمثيل النسبي منقذًا ومُخلِّصًا للواقع الفلسطيني من أزماته المتراكمة، ويغيب عن الأذهان أن الانتخابات نجحت في بعض التجارب، وفشلت في تجارب أخرى، وكذلك إن نظام التمثيل النسبي ساهم أحيانًا في استيعاب أوسع الشرائح الاجتماعية داخل النظام كما هو الحال في (إسرائيل)، حيث خفضت نسبة الحسم، فدخلت شرائح واسعة من مختلف التيارات السياسية والاجتماعية تحت قبة البرلمان، لكن التمثيل النسبي في (إسرائيل) أوقع القوى السياسية الكبيرة تحت ابتزاز القوى الصغيرة، وها نحن نراهم يخوضون الانتخابات للمرة الرابعة في عامين، دون أن تستقر لهم حكومة.
وأحيانًا أخرى استُخدم نظام التمثيل النسبي لإقصاء أقليات عرقية، وذلك كما كان يحصل في تركيا عندما كانت نسبة الحسم مرتفعة، وكان رفع نسبة الحسم بهدف منع الأكراد من دخول الانتخابات قوة سياسية موحدة، وهنالك تجارب عديدة تؤكد هذه الحقيقة، وهي أن نظام التمثيل النسبي لا يمثل وصفة سحرية، ولا مدخلًا لحل أي مشكلة، بل إنه على النقيض من ذلك، قد يساهم أحيانًا في توليد مشاكل جديدة.
لكن لماذا يُطرح نظام التمثيل النسبي بقوة عندنا؟ توجد إجابة شائعة تُفيد أن هذا النظام يمنع حصول فصيل واحد على أغلبية مُطلقة، وبذلك يمنع من التفرد، ويساهم في تحقيق الشراكة، إضافة إلى أنه يُفسح المجال لاستيعاب الفصائل السياسية الصغيرة تحت قبة البرلمان.
إن قليلًا من التأمل يُشير بوضوح إلى أن الهدف من وراء نظام التمثيل النسبي، في الحالة الفلسطينية، يتمثل في أمرين: الأمر الأول هو حل مشكلة قيادة الفصيل المسيطر على السلطة (يعني حركة فتح)، والأمر الثاني هو احتجاز تبلور تيارات اجتماعية سياسية جديدة.
كيف ذلك؟ تتناقل وسائل الإعلام تصريحات ولقاءات إعلامية تُعبّر عن غضب الكثير من قيادات وكوادر حركة فتح من سلوك قيادة الحركة، ويبدو أن هنالك أربعة تيارات من داخل حركة فتح تعتزم خوض الانتخابات في قوائم مختلفة، ولهذا أرادت قيادة الحركة إحكام سيطرتها على تشكيل قائمة واحدة، وعززت هذه الإرادة بتهديدات، إضافة إلى ترتيب أوضاع القضاء ترتيبًا يمكنه من شطب أي قائمة لا تُرضي القيادة المسيطرة على السلطة.
إن ما يجري من نقاشات وخلافات داخل حركة فتح يؤكد أن أزمة هذه الحركة لم تعُد تقتصر على فقدان القدرة على إصلاح ذاتها، بل تعدت ذلك إلى حد عدم قدرة قيادات هذه الحركة على التوصل إلى تسويات فيما بينهم، والغريب أن هذه القيادات المتنازعة لا يوجد بينها اختلافات في البرنامج السياسي، بل هي خلافات على المصالح والمواقع.
أما فيما يتعلق باحتجاز تبلور تيارات سياسية واجتماعية جديدة، فإن نظام التمثيل النسبي مع اشتراطات الاستقالة من العمل وقبول هذه الاستقالة أيضًا، إضافة إلى المبالغ المالية التي يجب أن تُدفع رسومًا لتسجيل القوائم؛ يجعل أصحاب الخبرة والكفاءة غير قادرين على خوض الانتخابات، ويُبقي المجال مفتوحًا فقط أمام الفصائل القديمة، وبجانبهم من يمتلك المال.
لو افترضنا أن ما سبق قوله لا قيمة له، وأنه تخوفات مبنية على شكوك، مع أنه اجتهاد قد يتفق معه كثيرون -لنفترض أن الكلام السابق لا قيمة له- فماذا سيحدث لو انتخب مجلس جديد؟ هل سيستطيع هذا المجلس أن يقوم بدوره في إصلاح ما اعْوَجَّ من الأوضاع؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة المعضلة الرئيسة التي يعانيها النظام السياسي الفلسطيني، وهي تتمثل في النقاط التالية: أولًا: هذه السلطة تمثل فريقًا واحدًا، وهي غير مؤهلة لتمثيل عموم الفلسطينيين، وخياراتها السياسية، والتزاماتها أمام الدول الكبرى بشأن الحفاظ على أمن (إسرائيل) تجعلها إقصائية، وفيما يتعلق بغزة فإن حالة النبذ التي تعانيها الإدارة الحكومية من الدول الكبرى في المنطقة تجعلها غير جاذبة، حتى لو أرادت أن تفتح أبواب الشراكة أمام الجميع، أيضًا رغبتها في فتح أبواب الشراكة أمام الجميع هي محل نقاش.
ثانيًا: إن فقدان السلطة الشرعية الوطنية، أو حرصها على توليد شرعية وطنية على مقاس ورغبة الأطراف الخارجية يجعلانها أكثر ميلًا للإقصاء، وذات مضمون تسلطي يصعب تفكيكه، ويجعلانها تلجأ إلى القمع في مواجهة الاعتراض الاجتماعي والسياسي، وقيادات السلطة لا تُخفي هذا الحرص، وتقول جهارًا نهارًا إن أي قيادة يجب أن تكون مقبولة من الخارج.
إن سيطرة أي سلطة على بقعتها الجغرافية تحتاج إلى ثلاثة أنواع من القدرة، هي: الإكراه بالقوة الأمنية، والإقناع بجدارة المشروع والفكرة وتحقق المشروعية والكفاءة في الممارسة، والإغراء بإمكانات اقتصادية مستقرة ومستقلة، والسلطة الفلسطينية لا تملك من هذه القدرات إلا القدرة على الإكراه بالقمع، أما الإقناع فهو مفقود، والإغراء مشروط برضا الدول الكبرى إضافة إلى الاحتلال، وإلا تجفف المنابع.
لا الانتخابات، ولا نظام التمثيل النسبي يملكان القدرة على حل هذه المعضلات، لأنها معضلات بنيوية، وبذلك يُفضّل تخفيض سقف التوقعات من الانتخابات، ومن السلطة في وضعها الحالي، والانتقال إلى البحث عن مسارات للعمل تساعد على حل المعضلة الرئيسة التي تحدثنا عنها، وليس بيع وشراء الأوهام.
وهذا يتطلب من المثقفين توضيح هذه المعضلة، وخوض نقاش عام بتشكيل قوائم انتخابية أو عبر الكتابة وحلقات النقاش، ما يؤسس لولادة قوى وحركات اجتماعية جديدة، قادرة على تحشيد أكثرية وطنية بإمكانها كسر الأقفال الموصدة أمام بناء نظام سياسي فلسطيني يُمثل كل أبناء الشعب الفلسطيني، ويستطيع قيادة نضال الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال.