عشرُ سنواتٍ بالتمام والكمال مرت على صدور صحيفة "فلسطين"، عاشت عبرها طواقمها كافة أسعد اللحظات وأشدها قسوة، وإن عيش تلك التناقضات أمرٌ يبدو مثيرًا للتساؤل؛ فقد عرضت لـ"فلسطين" الغراء على مدار السنوات الماضية أزمات كانت كفيلةً بأن تودي بها، لكنها بجهود القائمين عليها والعاملين فيها استطاعت عبر سنواتها الشامخات أن تناضل كي تقف على الأرض في أحلك الظروف.
منذ الثالث من أيار (مايو) عام 2007م تاريخ ميلاد "حارسة الحقيقة" حتى هذه اللحظة استمرَّت الصحيفة في الصدور، وجدّت سنة تلو أخرى في تغطية ونشر الأخبار المحلية الهامة في قطاع غزة، وترسيخ ثقافة المقاومة الفلسطينية، محاولةً تجاوز ما يعترضها من مطباتٍ متنوعة الأشكال.
نبض الناس
في حديث يُنعش الذاكرة قال المدير العام إياد القرا: "إن صحيفتنا مرت بمراحلٍ مختلفة لم تخل من الأزمات المتتالية، ما أثر على سير عملها بدرجة كبيرة، لكن خصوصية "فلسطين" التي تعبر عن نبض الناس أجبرتها على العمل في وقت الأزمات".
وأضاف: "اتخذ القائمون على الصحيفة قرارًا مهمًّا في حرب عام 2012م وكذلك حرب عام 2014م، أن تستمر في الصدور مطبوعة، كان تحديًا حقيقيًّا أن نفعل هذا وسط الأحداث المتلاحقة والقصف المستمر".
وعلل هذا الإصرار على الصدور: "أردنا أن نوصل إلى قرائنا الكرام فكرةً، مفادها أن رسالتنا مستمرة حتى في الظروف الصعبة التي يمر بها القطاع في أوقات الحروب".
"ما الإجراءات التي اتخذتموها حيال هذا القرار الذي ينطوي على قدرٍ من الخطورة؟"، كان جوابه عن سؤالي: "لتحقيق هذا الهدف اضُطررنا إلى العمل وفق خطط طوارئ، عملنا على تحديثها باستمرار بما يتناسب مع التطورات وفق المعايير المهنية وبما يضمن الوصول إلى الجمهور، مع توفير القدرات البشرية والمادية اللازمة لاستمرار العمل".
وشدد القرا على أن الطواقم الإدارية والصحفية عملت بمثابرةٍ عالية، وبروح الإصرار على الوجود في الميدان لحظةٍ بلحظة، في أجواء قد تجعل الواحد منهم في مرمى الخطر.
أزمات متعاقبة
وبالعودة إلى الماضي استذكر القرا أولى الأزمات، التي قُدر أن تكون بعد الشهر الأول من انطلاقها، ففي عام 2007م عاصرت الصحيفة مرحلة الانقسام الفلسطيني، وواجهت صعوبةً في توزيعها بالضفة الغربية، ما اضطرها إلى التوقف عن الطباعة فيها.
وبين القرا أن الصحيفة نجحت في مجابهة "فاتحة التحديات" بإنشاء الموقع الإلكتروني للصحيفة، لتصل إلى الجمهور بيسرٍ في الضفة وخارج فلسطين، وهو ما حققه الموقع الذي يشهد إقبالًا ملحوظًا من خارج فلسطين.
وأكمل القرا: "أما حين شن الاحتلال حرب الفرقان على قطاع غزة في أواخر عام 2008م فعملت الصحيفة ما بوسعها من أجل إصدار النسخة المطبوعة، لكنها اضطرت إلى التوقف عن الطباعة، ولكن فيما بعد كان لدينا توجه باستمرار الصحيفة في الصدور، أيًّا كانت الظروف".
وعن أزمة الورق التي واجهتها الصحيفة خلال سنوات عدة؛ نتيجة منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المطابع والورق إلى القطاع منذ بداية الحصار؛ أفاد باضطرار الصحيفة إلى التوجه نحو مطابع تجارية، وهذا كبَّدها تكلفة مالية طائلة.
ويمضي في حديثه قائلًا: "تغلبنا على هذه الأزمة بشقّ الأنفس؛ فقد عملنا على توفير الورق بإدخاله من الأنفاق، أو استخدام الورق المخصص لصناعة القرطاسية، أو توفيره من طريق مؤسسات مهتمة بهذا الجانب".
وتعتمد صحيفة فلسطين على الإعلانات والشركات في توفير بعض الموارد المالية، حسب قول القرا، يضيف: "تردي الأحوال الاقتصادية الذي ألقى بظلاله على الشركات أثر سلبًا على النشر الإعلاني، ما دفعنا إلى تقديم امتيازاتٍ للشركات المعلنة، لتشجيعها على مواصلة الإعلان لدينا".
منافسة قوية
قد يتساءل القارئ: "كيف تتعامل "فلسطين" مع منافساتها من الصحف؟"، إجابةٌ واثقة يقول صاحبها التالي: "تصدر ثلاث صحف في الضفة الغربية وتوزع في غزة، ويمنع توزيع صحيفتنا في الضفة، لكننا بفضل الله استطعنا المنافسة بجدارة، لاسيما أنه يتصدر أولوياتنا تقديم القضايا الفلسطينية التي تهم المواطن الغزي بشكلٍ فعال".
وشدد على أن صحيفة "فلسطين" تميزت برسالتها الإعلامية الداعمة للمقاومة الفلسطينية، "فالصحيفة تعمل ضمن مشروع إعلام مقاوم، وتمثل أنموذجًا للإعلام الفلسطيني الحديث الذي يتحدث عن نبض الناس".
ولدى سؤاله عن الخطط المستقبلية لتعزيز وصول الصحيفة إلى الجمهور وقت الأزمات قال المدير العام: "لدى مؤسستنا خطة طوارئ مُحدّثة ارتكزت على خبرة حربي 2012-2014م، بحكم أن القائمين على الصحيفة تمرسوا في التعامل مع الأزمات والحروب، إذ سيعتمد على الوصول الإلكتروني إلى الجمهور، بالحفاظ على وجود النسخة الإلكترونية للصحيفة احترامًا للمتابعين، مع إمكانية الطباعة في حال أتيحت الظروف".
جنود الصحيفة
وعلى صعيد العمل يبقى صحفيو الجريدة هم عمادها، وهم من يصرون على الاستمرار في العمل في أوقات الأزمات على اختلافها، الصحفية أسماء صرصور أكدت أنها لم تتوان عن العمل في أشد الأزمات التي مرت بها الصحيفة.
وقالت: "منذ اللحظة الأولى لإعلان الحرب عام 2012م بدأتُ العمل وفق خطة طوارئ الصحيفة، وتواصلت مع المسؤول المباشر للبدء في إعداد المواد الصحفية المطلوبة ومعالجتها قدر الإمكان".
وأضافت صرصور: "في حرب 2012م التي استمرت ثمانية أيام واصلت العمل على مدار أربع وعشرين ساعة قدر المستطاع، لم أستطع مغادرة المنزل لاعتبارات أسرية ومجتمعية كوني فتاة".
وأكملت: "لكني لم أترك هذه العادات والتقاليد تعيق عملي، فاتخذت من فضاء (الإنترنت) وسيلة لمتابعة العمل وإنجاز التقارير من المنزل، وركزتُ جهدي في إنجاز أفكار تساهم في رفع الروح المعنوية للمواطنين".
وبينت صرصور أن التقارير التي أنجزتها أبرزت سمات التكافل المجتمعي، ومد يد العون في أوقات الحرب، وذلك بإجراء لقاءات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى إنجاز تقارير توعوية عن كيفية التعامل في حال القصف من إرشادات وإجراءات، وكيفية معاملة الأطفال إبان الكوارث.
وذكرت أنها ركزت في تقارير أخرى عن رؤية الإسلام في الحرب، وأخلاقيات الجهاد، والشروط الواجب وضعها في حال دخول المسلم حالة الهدنة مع العدو، إلى جانب رصد ما يكتبه النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أحداث ومواقف تظهر الحالة الشعبية، ولم تنس أسرتها التي مدت لها يد العون في رصد مواقف عدة تتناسب مع الحدث.
وقالت أسماء التي تنضح حيوية: "استمررتُ في العمل حتى ساعات الفجر الأولى لرصد حصاد العدوان من شهداء وإصابات، وتوثيق ذلك، ومتابعة فعاليات حركة المقاومة الإسلامية حماس احتفاءً بانتهاء الحرب وتوقيع الهدنة".
خطيرة وقاسية
بدوره تحدث الصحفي أحمد المصري عن تجربته في هذا السياق: "انصبَّ عملي مراسلًا صحفيًّا على إعداد القصصِ الإنسانية والتقارير الحية من الميدان، التي صُبغت في مجموعها بلون الخوف والحزن بسبب بطش آلة الحرب، وعدم تفريقها بين صغير وكبير".
وقال: "لم يكن قرار النزول إلى الشارع والتقاء من فقد ابنه أو بيته أو عائلته أمرًا صعبًا علي، فهذا واجب لا يمكن التخلي عنه مع المخاطر الكبيرة المحدقة بأي شخص يتحرك على الأرض، حيث يصبح مرشحًا لأن يكون هدفًا للطائرات الحربية".
وأضاف المصري: "في الحرب الأخيرة عام 2014م سمعتُ انفجارًا ضخمًا هزَّ أرجاء مدينة خان يونس التي أقطن فيها، انطلقت إلى مكان القصف لأرى بيتًا قد أصبح أثرًا بعد عين، وارتقى من أهله 22 شهيدًا ولم ينجُ منه سوى 3 أشخاص".
ووصف رحلة العمل في هاتين الحربين بالخطيرة والقاسية، إذ واجه الكثير من الصعوبات، أبرزها عدم توافر الكهرباء أو وسائل الحماية اللازمة للصحفيين، مستدركًا: "غير أني ومع ذلك لن أفكر في التقاعس في أي مواجهةٍ قادمة، أسأل الله ألا تحدث".