اعتدنا على الدوام توصيف العنصرية الإسرائيلية المتفاقمة وأبعاد القوانين والقرارات الجائرة وانعكاساتها المباشرة على الشعب الفلسطيني؛ عبر دراسات وتحليلات فلسطينية وعربية ودولية مناصرة للحق الفلسطيني، لكن ثمة معنى آخر مع ظهور تحليلات من الداخل الإسرائيلي نفسه.
نموذجان لكشف حقيقة العنصرية
النموذج الأول وهو سياسي؛ وتمثل أخيراً بإعلان "أبراهام بورغ": رئيس الكنيست الإسرائيلي الخامس عشر ورئيس الوكالة اليهودية و "رئيس دولة إسرائيل" لفترة قصيرة بعد عازر وايزمن وابن الـ 65 سنة، أنه سيقدم طلبا للمحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس بالتخلي عن القومية اليهودية؛ حيث طالب بورغ المحكمة بإلغاء تسجيله كيهودي في وزارة الداخلية الإسرائيلية، وذلك في أعقاب سن قانون القومية، حيث قال في مقابلة له مع الصحافية "رفيت هاكت" في ملحق هآرتس قبل عدة أيام "لا أستطيع الشعور بالتضامن مع هذه المجموعة، فاشطبوا اسمي من السجلات".
وأوضح بورغ حول قانون القومية: "معنى القانون أن كل مواطن غير يهودي في "دولة إسرائيل” سيعاني من مكانة أقل كما عانى اليهود لأجيال طويلة في بلدان أخرى". وشدد بورغ بالقول "لست مستعداً أن أتضامن أو أعرف نفسي كيهودي في إسرائيل". وأعرب بورغ عن اعتقاده بأنه يجب تغيير كلمات النشيد الوطني الإسرائيلي "هتكفا" لأن هذا مناسب فقط لليهود وللأشكنازيين على وجه التحديد. أما النموذج الإعلامي، فقد كان الكاتب والأديب الإسرائيلي من أصل يهودي عراقي "سامي ميخائيل" الذي حذر في أكثر من ندوة ومقال، من أن تنامي العنصرية الإسرائيلية، قد يجعل "إسرائيل" ظاهرة عابرة في التاريخ، وانتقد مسلسل التشريعات العنصرية في الكنيست.
تفاقم العنصرية
من أخطر القوانين الإسرائيلية العنصرية الصادرة "قانون القومية" الذي قدّم مشروعه عضوا الكنيست السابقين زئيف إلكين (من الليكود) وأيليت شاكيد (من البيت اليهودي) وبذلك تكون "إسرائيل" قد قوننت فكرة يهوديتها.
وفي سباق مع الزمن تسعى حكومة بنيامين نتنياهو إلى تهويد ما تبقّى من أرض في حوزة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وفي مدينة القدس أيضاً. وتبعاً لذلك لم يعد مصطلح يهودية دولة الاحتلال مجرد فكرة، حيث تسعى المؤسسات الإسرائيلية المختلفة إلى تنفيذ مخططات لتهويد كل مناحي الحياة داخل الخط الأخضر والقدس.
فكرة يهودية دولة الاحتلال التي كانت دائماً إحدى ركائز الفكر الصهيوني، وبغض النظر عن أن درجة هذه اليهودية وبعض مضامينها كانت مثار جدل بين تيارات معينة في الحركة الصهيونية، إلا أن الزخم الكبير لهذه المقولة التي أصبحت مقوننة، خاصة بعد تبوؤ نتنياهو سدة الحكم في دولة الاحتلال، إنما ينطوي على أبعاد مهمة وجوهرية، وفي المقدمة منها نفحات عنصرية ضد الأقلية العربية داخل الخط الأخضر واللاجئين الفلسطينيين في أماكنهم المختلفة، سواء داخل فلسطين التاريخية أو في المنافي القريبة والبعيدة.
تهويد الجليل والنقب
اللافت أنه في السنوات القليلة الماضية استصدرت (إسرائيل) رزمة قوانين للسيطرة على مزيد من الأراضي المتبقية بحوزة الفلسطينيين، ناهيك عن استصدار قوانين من شأنها تعزيز فكرة يهودية (إسرائيل). ومن أخطر تلك القوانين أيضاً قانون الجنسية وقانون النكبة الذي يحظر على الأقلية العربية إحياء ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني، فضلاً عن قوانين تمنع التزاوج بين أفراد من الأقليّة داخل الخط الأخضر مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بغية الحد من التواصل الديموغرافي.
وفي محاولة لتهويد ما تبقى من أراضٍ بحوزة الأقلية العربية داخل الخط الأخضر وضعت السلطات الإسرائيلية مخطّطات لتهويد منطقة الجليل والحدّ من التركز العربي فيها، وذلك عبر أسماء مختلفة، مثل ما يسمى مشروع تطوير منطقة الجليل، ومشروع نجمة داود، هذا إضافة إلى ظهور مخطّطات للحدّ من التركز العربي في منطقة النقب التي تشكل مساحتها خمسين في المائة من مساحة فلسطين التاريخية.
من تلك المخططات مخطط "برافر" الذي يسعى إلى مصادرة 800 ألف دونم، وتجميع عرب النقب البالغ عددهم نحو 200 ألف نسمة في مساحة هـي أقل من 100 ألف دونم، أي على أقل من واحد في المائة من مسـاحة صحـراء النقب في جنوب فلـسطين المحـتلة.
ولتعزيز فكرة تهميش الأقلية العربية؛ أصدرت "إسرائيل" قبل عدة سنوات "المواطنة والولاء" الذي يفرض على الأقلية العربية الاعتراف، من خلال القسم بـ "يهودية دولة الاحتلال" قبل الحصول على الجنسية الإسرائيلية، وتبعا لذلك لم يكن أقلّ خطورة من القوانين والقرارات العنصرية الأخرى. وتكمن أخطار تلك القوانين التهويدية التي تسارعت وتيرة صدورها، بتداعياتها المستقبلية الخطيرة على وجود الأقلية العربية؛ خاصة في ظل تراجع الخطاب العربي حول الحقوق الفلسطينية وتسارع عجلة التطبيع الرسمي مع دولة الاحتلال، سترتفع وتيرة النشاط الاستيطاني في عمق الضفة الغربية وخاصة في مدينة القدس، كما سيزيد الضغط الإسرائيلي بكافة أشكاله على الشعب الفلسطيني وخاصة على الأسرى الفلسطينيين في سجون الجلاد الصهيوني، الأمر الذي يتطلب الكشف عن المستور من السياسات الإسرائيلية وأخطارها، بالاعتماد على خطاب فلسطيني موحد ومدروس، حيث يعتبر مجرد استمرار الوجود المادي الديموغرافي للأقلية العربية في أرضها وفي الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس وقطاع غزة رصيداً ديموغرافياً ووطنياً.