فلسطين أون لاين

ليلة ليلاء طالت عتمتها! (لينا ابنة الأسير مالك ناجح بكيرات)

ما أطول هذه الليلة! وكأنها أطول ليلة أعرفها على الإطلاق، أحاول أن أنام ولكن النوم يولِّي هاربًا مني إلى القطب الجنوبي، أو ربما إلى المريخ.. أخشى أن وحشًا قد التهمه ففقدناه إلى غير رجعة.

هل يحدث هذا مع كل الناس يا تُرى؟ ربما.. لا أعلم تحديدًا.

سبعة عشر عامًا وثلاثة أشهر وأسبوع ويومان هي مجموع أيام عمري حتى اللحظة.. أمضيتها بعيدًا عن أب، لا يُسمح لي برؤيته إلا مرة واحدة ولنصف ساعة فقط كل أسبوعين، من خلف زجاج سميك يحجب عني كل شيء عدا صورتِه وظِلِّ نظراته المتحدية الأسيرة.

لا سبيل لي لمعانقته وتقبيله والارتماء في حضنه، وسماع أنفاسه، واستشعار دفئه.

مثل كل فتيات العالم وأطفاله، أتمنى أن أعيش مع أبي، أتناول طعامي معه، أخرج برفقته، يشتري لي الملابس والألعاب والحلويات، يسألني عن دروسي، يأخذني للطبيب عندما أصاب بالحمى.

يحاول جدي وجدتي القيام بهذه الأدوار وأكثر منها، أشعر بحبهما ودفئهما الذي لا يوصف، ولكن شعوري بالحاجة إلى أبي بجانبي، والحنين إليه يحرق قلبي.

يتكرر معي في كثير من الزيارات، وقبل أن أجلس على المقعد الطويل البارد بمحاذاة الزجاج السميك، أُسارع إلى الإمساك بسماعة الهاتف بيد مندفعة، فتسقط أرضًا، وترتطم محدثة صدى بغيضًا، يشعرني بالغربة، أرفع عيني إلى عينَيْ أبي خلف الزجاج خجلى، فألمح أشواقه وبسماته، وتعانقني نظراته بشغف، وقبل أن تقبِّل كلماته أذني، وتُسكن روحي وتبث الأمل في كل خلايا عقلي، وقبل أن تنقضي الدقائق القليلة -أو لنقل أنها تُسرق مني- وأُرغَم على المغادرة، يؤكد لي في كل مرة بأننا سنلتقي عما قريب، حتى غدت عبارة "في وقت قريب" توازي في ذهني سنوات طويلة ممتدة، أخشى أن لا تنقضي.

أسأله: ماذا تفعل هنا يا أبي؟ وكيف تمضي وقتك؟ وماذا يوجد في الداخل؟ وهل الأسر سيئ جدًا كما يقولون؟ فيعيد توجيه السؤال لي، ويلحُّ علي أن أبدأ بالحكي.. فأُسهب في السرد ويسرقني الوقت دون أن أنتبه:

جدي أحضر لي لعبة شقراء تحكي قصصًا مسلية وتنشد وتقدم النصائح، وجدتي خاطت لي فستانًا جميلًا.. انظر إليه ما أحلاه! وأقف أمامه لأجعله يرى بوضوح.

وقطتي زيتونة أنجبت أربع هريرات رائعة: ثلاث منها زيتونية اللون مثل أمها تمامًا، وواحدة بيضاء مثل الحليب، تتكور تحت أمها وترضع طوال الوقت، وفقس لدجاجة جيراننا في طرف الحارة عشرة صيصان لا تبتعد عن أمها، ولا تثق بأحد، وبرغم صغرها فإنها تأكل الحَبَّ، وترفرف بأجنحتها، وتحاول تقليد الكبار، أما الديك الأسود ذو العرف الأحمر والرقبة الشقراء البراقة فهو شرس جدًا لا يسمح لأي شخص غير أم أسعد بالاقتراب من القنِّ، وفي الصباح أستيقظُ على صياحه فوق السور الخلفي.

نسيت أن أُخبرك يا أبي، أصبحت بيوت اليهود تقترب من حيِّنا بسرعة رهيبة، لدرجة أصبحت بعض بيوتهم تلاصق بيوت الحي، ولا يخرجون من بيوتهم إلا ويحملون أسلحتهم على أكتافهم.. يقاطعني أبي متسائلاً: هل تخافينهم يا لينا؟

أُجيب: لينا شجاعة لا تخاف.. فهي ابنة البطل مالك بكيرات.

تتلألأ الدموع في مقلتَيْ والدي، ويتماسك ويبذل جهده ليجعل صوته يخرج ثابتًا قويًّا، ويطلب مني أن أكمل السرد، فأقول: صديقتي غادة تجلس الآن إلى جواري في الصف، والمديرة الطيبة الأستاذة عبلة تقاعدت وحلَّت محلها مديرة جديدة شابة.. دعني أُريك: ها هي ذا شهادتي المدرسية(أُلصقها بالزجاج ليتمكن من رؤيتها بوضوح).

وأكمل قائلة: انظر إلى علاماتي! لقد تحسَّن أدائي في الرياضيات، أقسم أنني أفعل ما بوسعي لتكونَ فخورًا بي يا أبي.. كم أتمنى أن تحضر حفل التكريم الذي ستقيمه المديرة للاحتفاء بتفوقنا بعد أُسبوعين!

تدمع عينا والدي رغمًا عنه ويقول بثقة: عما قريب سأفعل يا لينا.. عما قريب بإذن الله!

تدوِّي مكبرات صوت مزعجة تقول بعربية ثقيلة: انتهى وقت الزيارة، ندعو جميع الزوار للمغادرة.. ويحضر جنود مدججون بالأسلحة، يقتادون أبي ورفاقه بعيدًا عن الزجاج الذي ينقل لي صورته.. أنهضُ من مكاني وأسيرُ بخطوات متثاقلة أنتظر نصف الساعة القادمة بعد أسبوعين، وأُعدُّ ما سأخبره به!