فلسطين أون لاين

متى يكون التعلق آمنًا؟ هل البدايات هي المؤثر الأكبر؟

المشاعر هي ما تُربِّي الإنسان حقًّا!

والحب هو ما يجعل منا أشخاصًا أسوياء عندما نكبر، أو أناسًا ترهقنا العُقد النفسية والاضطرابات التي يمكنها أن تدمر حياتنا ومستقبلنا. عندما نولد، بالقدر الذي نحتاج به إلى أم ترضعنا الحليب وتغير لنا ملابسنا وحفاظاتنا، نحتاج من هذه الأم أن تلمس أجسادنا وتداعبنا وتشعرنا بالدفء وتفيض علينا بمشاعرها فندرك بفطرتنا أنها تحبنا وتهتم بنا.

قد يعتقد البعض أن الأطفال الرُّضَّع لا يدركون، فهم صغار! ولكن الحقيقة غير ذلك، فالشخصية تبدأ جوانبها بالتشكل منذ لحظة الولادة مباشرة، وكل حدث يمكن له أن يصقلها، ويمكن له أيضًا أن يُحدِث فيها نُدوبًا عميقة لا تزول حسب طبيعة التجرِبة التي تعرض لها.

فهل يمكن أن يتأثر الاستقرار العاطفي لأُسَرنا ونحن بالغون حقًّا بمدى الاستقرار العاطفي الذي كنا عليه في السنوات الأولى من طفولتنا؟ وهل يمكن للاختلالات السلوكية والاجتماعية والعاطفية للبالغين أن تُعزَى إلى نقص في كمية الاهتمام والرعاية التي حصلوا عليها في مدة إرضاعهم، الأمر الذي يدفعهم إلى فقدان الشعور بالأمان ويحكم عليهم بالفشل في بناء وتطوير علاقات اجتماعية وعاطفية سليمة وآمنة يحملونها معهم في بقية حياتهم؟

انتبهوا إلى أن التواصل مع الطفل حديث الولادة ومداعبتَه والاهتمام به ليس نوعًا من التسلية والرفاهية لأم ليس لديها شيء تتلهى به سوى هذا الصغير! أبدًا.. بل هو حاجة ضرورية تساوي في أهميتها إرضاعه ونومه وحمايته من البرد والمرض.

والتعلق: هو ارتباط نفسي دائم بين البشر، وهو مجموع المشاعر والروابط والرغبات التي يبنيها الطفل منذ شهور حياته الأولى مع الشخص الذي يرعاه ويعتني به بعد ولادته، ويمنحه الدفء والأمان والحنان. وغالبًا ما تكون الأم هي هذا الشخص، وفي حالات أخرى قد تكون الجدة أو أحد الأقارب الآخرين، مثل: عمة أو خالة... أو حتى مربية في دار الأيتام. فإذا غاب هذا الشخص أحدث غيابه خوفًا وقلقًا لدى الطفل، ويحدث ما نسميه بقلق الانفصال، حيث يصرخ الطفل ويضطرب ويبكي بحرقة في حال ابتعاد الأم وغيابها عنه.

وعادة ما يصل التعلق إلى قمته في السنة الثانية من العمر، ويبدأ تدريجيًّا بالتراجع مع تقدم العمر وازدياد قدراته واعتماده على نفسه واستقلاليته.

علاقة الارتباط القويمة هذه بين الأم (أو مقدم الرعاية والخدمة) والطفل تؤسِّس لبناء نفسي متين من الثقة بالنفس، التي سيتحلى بها الطفل لاحقًا، وتعمل على تطوير علاقات عاطفية صحية مستقبلية، وتُنمِّي قدرة هذا الإنسان في التعامل مع الضغوط والصدمات التي سيتعرض لها في حياته، وتمنحه هويته الخاصة وقيمته الذاتية وتشعره بالرضا عن ذاته، كما تضع حجر الأساس في نفس الطفل للأخلاقيات الاجتماعية والمشاعر تجاه الآخرين من تعاطف وحب للمساعدة والانتماء وغيرها.

وتصور معي -على سبيل المثال- طفلًا يشاهد بأم عينيه والديه وهما غاضبان، فيشعر بالذعر نتيجة لذلك، ويسجل دماغه هذه الملاحظة ويبقيها حاضرة، خاصة مع تكرارها، ولديه معلومات سابقة في ذهنه أنهما أيضًا مصدر الدفء والأمان، فعندما يحتاج إلى الشعور بالأمان، يرتبك دماغه، فكيف يكون مصدر الذعر ذاته هو مصدر الأمان؟ وهنا تنشأ اضطرابات وتَشوُّش في ذهن الطفل بمسألة التعلق.

يحدث التعلق غير الآمن عندما يكون الطفل غير متأكد من أن الأم سوف توجد عند حاجته إليها، ولن تتجاوب معه كالمتوقع، ولن تتعاون معه وتحتويه وتمنحه الحب الذي يحتاج إليه؛ أيْ إنه سيعاني فقدانًا جزئيًّا للأم رغم وجودها فعليًّا.

وفي نهاية المقال أذكِّركم بمقولة الطبيب النفسي هاري هارلو: "لا يعيش الإنسان بالحليب وحده، فالحب عاطفة لا تهبها زجاجة حليب فارغة من المشاعر".

فأغدقوا على أبنائكم بالمشاعر الدافئة والحب صغارًا كانوا أو كبارًا، فهم يحتاجون إلى الحضن الدائم أكثر من حاجتهم إلى الألعاب والحلويات وغيرها. لا تتركوا أشغال الحياة وهمومها تشغلكم عن تكرار تأكيد حبكم لأبنائكم، ولا تتوقعوا أن يدركوا من تلقاء أنفسهم أنكم تحبونهم وأنهم الأفضل لديكم، دعوا أفعالكم تثبت مدى حبكم وليس توقعات قد تعبث بها الشكوك والمخاوف.