قد يرى البعض أن فكرة المقارنة بين نموذج الانتخابات الأمريكية والنموذج الفلسطيني ظالمة أو على الأقل غير موضوعية، وهذا صحيح نسبيًّا! فكيف لو كان الحديث عن المقاربة مع الانتخابات الداخلية للفصائل الفلسطينية؟! مع استحضار أن نظام الانتخابات الأمريكي يختلف عن أي نظام انتخابي مباشر، فهو لا يعتمد على أصوات الناخبين مباشرة بل يعتمد على ترجيحات المجمع الانتخابي للولايات، فبدل أن يصوت الناخب مباشرة لصالح الرئيس ونائبه يتم التصويت لصالح ناخبي هذا المجمع، وهذا المجمع بدوره يختار الرئيس نيابة عن ناخبيه، وهذا النظام لا يوجد مثله على كوكب الأرض.
معلوم بالضرورة أن الاستفادة من تجارب الآخرين لا ينحصر في زمن معين أو بيئة بذاتها أو حتى في حجم محدد للمجتمع، فالسلوك البشري يحمل عوامل مشتركة أكثر من كونه يتمتع بفروق فردية أو جماعية، كما أن سيكولوجية الناخب تعتمد على العاطفة الباطنية أكثر من العقل الظاهري.
نحن كفلسطينيين بحاجة لأن ندرك أن ديمقراطية المكونات الوطنية هي الأساس للديمقراطية العامة، وأن الفصائل التي تفشل في انتخاباتها الداخلية لا يمكنها أن تكون مبادرة للذهاب لانتخابات رئاسية أو حتى برلمانية (تشريعي ومجلس وطني). إن فوز جو بادين برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بعد 4 سنوات من مغامرات دونالد ترامب الذي وعد الأمريكيين بأنه سيجعل "أمريكا عظيمة مرة أخرى" يضع قيادات الفصائل الفلسطينية أمام حقائق انتخابية مهمة، ويدفعنا جميعًا لأن نستخلص العبر الوطنية من داخل التجربة الحزبية، وهاكم بعضها:
الشأن الداخلي أولًا، فالناخب مهما سمع من وعود انتخابية في الشأن الخارجي أو شاهد عروضًا عن إنجازات عابرة للقارات الحزبية، إلاّ أنه سيختار في النهاية من يملك دفة الاستقرار الحزبي والمحافظة على المصالح الوطنية. ويبقى اختيار القيادة بالنسبة للقواعد الانتخابية أولوية حزبية داخلية أكثر من أي شيء آخر، وهذا بالضرورة لا يتعارض مع المصالح الوطنية التي يجب أن يحافظ عليها الحزب وتعمل القيادة المنتخبة لأجلها.
تكديس "الإنجازات" قد لا يشفع لأصحابها المتقلبين، فكلما زادت التغييرات الإدارية والتغييرات في الأشخاص ومسؤولياتهم؛ تزعزت الثقة بالقدرة على خلق الاستقرار والمحافظة على تلك "الإنجازات"، فالناخب قد يجرب الجديد رغبة في التغيير ليس إلاّ، لكنه دائمًا سيختار المشهور والمألوف، فالعاطفة تغلب حسابات العقل عندما يصل المرء إلى حافة الخوف من المجهول.
الانتقال الديمقراطي أهم من فوز شخص بعينه، وهذا يتعزز عندما تستشعر القاعدة الانتخابية أن المغامرات تتجاوز الأعراف الحزبية السائدة، وتكسر قواعد الأيديولوجية التنظيمية التي تجمع شمل الأفراد وتمثل كيانهم الجمعي. وهذا لا يعني بالمطلق أن الناخب لا يقبل التغيير أو التجديد الفكري أو السلوكي، لكنه يخشى من فواجع المستقبل التي تمثل عاطفته لا عقله.
التعدد الفكري والاستقطاب الداخلي حقيقة وظاهرة صحية، حتى وإن حاول البعض نفيها عن الفصائل الفلسطينية أو المكونات الوطنية. وإلاّ فما الذي يمنح بعضها حياة أطول من غيرها؟! فمن المعلوم أن التدافع هو سنة كونية وحاجة حزبية لضمان الاستدامة وتعزيز فرص التجديد الذاتي. ومن قائل يقول أن كل حزب يحمل نسيجًا ونسقًا فكريًا لا يقبل التماهي مع غيره؛ إلاّ أن ذلك لا يتعارض مع طبيعة البشر الذين يمثلون مادة التفكير والقرار داخل كل حزب أو فصيل.
وحتى لا يقرأ البعض مقالي بحسب مكامن نفسه، ويتجاهل ظاهر القول وصريحه؛ فإنني أحيل القارئ إلى استحضار الجدل الكبير الذي عاشته الحياة السياسية الفلسطينية حول الانتخابات، وتعثرها مرات عديدة سواء عندما كانت مجرد فكرة ومواعيد على الورق أو حتى بعد أن تم تحديث السجلات الانتخابية تمهيدًا لإطلاقها فعليًا. في كل مرة كانت نوازع التأبيد القيادي تجذبنا جميعًا إلى غياهب الفشل الديمقراطي الداخلي لهذا الفصيل أو ذاك، ويبقى الوطن أسيرًا لخطاب المؤامرة والخوف من سرقة "الإنجازات" الوهمية. إن التجربة الانتخابية الأمريكية غنية بالدروس والعبر التي يجب أن لا تتجاهلها ديمقراطية الفصائل الفلسطينية، إذا كانت ترى في الوطن حزبًا كبيرًا يتنافس مع خصومه وأعدائه الكبار!.