الجريمة العظيمة التي ارتكبتها قبل أيام أن نفسي تاقت لزيارة مسجدنا الأقصى، فاض الشوق وطفح الحنين، فمضيت أبحث عن وسيلة تمكنني من الذهاب، مهما كانت مخاطرها أمام محتل غاشم يعتقد أنه حقًا امتلك هذه البلاد. لم يكن الحصول على تصريح لدخول قدسنا الحبيبة، بالأمر المتاح نهائيًّا. ولكنْ، هل يستسلم من يحرقه الشوق والحنين؟
إذًا لم يتبقَّ إلا الخيار الأخير.
قبيل أذان الفجر كنت على أتم الاستعداد، أنهيت صلاتي ثم كان الانطلاق إلى المحطة الفاصلة.. البوابة الزراعية في حبلة. ثغرات أحدثها الفلسطينيون في الجدران السميكة من الأسلاك الشائكة التي تغلف البوابة، بالقرب من نقطة مراقبة لجيش الاحتلال.
ولهذه البوابات حكاية طويلة لا مجال لذكرها الآن.
انحنيت بحذر، وبسرعة اجتزت فتحات ثلاثًا واحدة تلو الأخرى حتى أصبح جدار العزل العنصري المقيت خلفي. لم أكن وحدي، كثيرون مثلي حذوا حذوي قبل أن تبدأ ظلمة الليل في الانجلاء، ثوانٍ معدودة كنت بعدها بين المشاتل التي تقع على الأراضي الغربية لحبلة أمام جدار العزل العنصري.. لم أصدق أنني نجحت، وأن القدس أصبحت متاحة حقًّا، وأنني سأصل إلى المسجد الأقصى وأمرغ جبيني في ثراه، وأحوز شرف ركعات في رحابه.
وقت طويل اضطررت لانتظاره حتى حضور الحافلة التي ستنقلنا إلى القدس.. وعلى الرغم من بُعد المسافة وطول الطريق من قلقيلية إلى القدس والتي تتجاوز 80 كيلومترًا فإنها كانت شديدة الروعة لم أشعر بطولها، امتدت السهول الساحلية على جوانبها في بداية الرحلة، ثم تراءت أمامنا الجبال المرتفعة مع اقترابنا من القدس.
البيوت القديمة للفلسطينيين الذين هُجروا منها قسرًا ما تزال آثارها بادية للعيان على جوانب الطرق في أماكن قرى مجدل الصادق، رأس العين، لفتا، موزة... ناهيك بسلاسل الصبر التي تنتشر في كلِّ مكان سهليًّا كان أو جبليًّا، لتؤكد هوية المكان وتثبت فلسطينيتها وتعلنها وبشكل لا يقبل التأويل رغم المغتصبات والبيوت الغريبة الدخيلة التي استوطنت أرضنا بفجور.
شرعت القدس تتراءى أمامي من زجاج الحافلة، انتفض قلبي حبًّا، وتأجج الغضب في عروقي عندما رأيت بأم عيني الصبغة العبرية التي صبغوا بها شوارع قدسنا العربية الإسلامية، كل شيء تغير عما كنت أعرفه قبل سنوات عدة.
كانت شرطة الاحتلال تعج في كل مكان، أغلقوا مواقف إنزال الركاب بالحواجز المعدنية، وأغلقوا أبواب البلدة القديمة كذلك: باب الخليل، باب العمود، باب الساهرة.. اضطررنا للنزول في مكان بعيد، وسرنا راجلين حتى باب الأسباط، وجدناه أيضًا مغلقًا.
لاحقتنا شرطة الاحتلال ومنعتنا من مجرد الاقتراب من حواجزهم.. اختبأنا في المقبرة اليوسفية انتظارًا لفرصة سانحة للعودة ودخول الأقصى. مدٌّ وجزر طال فيما بيننا.
بلَغنا أن وفدًا من المطبعين يزور المسجد الأقصى؛ وهو السبب في هذا الإغلاق.
أعداد كبيرة منا تجمعوا أمام باب الأسباط، لم نيأس، كبَّرنا وأعلينا أصواتنا طلبًا للدخول للصلاة.. جابهونا برفع السلاح في وجوهنا. مجندات شتمننا وصرخن فينا آمرات أن نغادر المكان، وجندي صرخ بنا بعربية ثقيلة:" ارجعوا ورا، روحوا من هون.. شو بدكم.. روحوا!".
ثار غضبي وأجبته: إحنا شو بدنا من هون؟ وإلا أنت يا معفن؟ شو جابك على بلادنا؟ أنت روح من هون أحسن لك، هاي بلادنا!
قبل أذان الظهر بخمس دقائق بالضبط، تراجعوا وانسحبوا من المكان.
انطلقنا مثل سيل هادر نعاجل أقدامنا للدخول لعلنا نفوز بركعتين قبل الأذان.
وقبل أن أُتِمَّ وضوئي، انطلق أذان الظهر صادحًا. اكتفيت بالبقاء تحت أشجار الصنوبر بالقرب من باب الأسباط استغلالًا للوقت، فصليت ركعتين تحية المسجد، ثم صليت الظهر خلف الإمام، يغلبني الإرهاق الشديد والجوع.
طفى على نفسي شعور بالذل والغضب، فالتطبيع غدا وسيلة من خانوا الأمة والدين لوصول المسجد الأقصى وتدنيسه بخيانتهم.. وكأنه لا يكفينا الاحتلال وممارساته ضدنا ليزيد المطبِّعون رجسهم أيضًا.
الأقصى ينبذ المطبعين، يكرههم، هو يدني منه الطاهرين المرابطين الذين يبذلون الغالي والرخيص في سبيله.
وللمطبعين أقول: كفاكم زيارة أحبائكم الصهاينة، أما أقصانا فلا تزوروه، لا تمسوا طهره، لا تقتربوا منه!