كانت آخر المحاولات الانقلابية بتاريخ 15 تموز 2016م، وتابعها العالم عبر شاشات التلفزة في بث مباشر؛ فقد كانت على دمويتها بسبب التكاتف بين الحكومة والشارع التركي من ناحية، وعدم توحد قيادة أركان الجيش خلف الكتلة الانقلابية كما كان يحدث في كل الانقلابات السابقة؛ من أقصر المحاولات الانقلابية وأفشلها، إذ لم تنتهِ فقط بفشل المحاولة الانقلابية بل انهيار منظومة الدولة الموازية في كل مفاصل الدولة بشقيها المدني والأمني، وهو التنظيم المعقد التركيب الذي كان منتشرًا في كل مفاصل الدولة حيث بدأ تشكيله منذ سبعينيات القرن الماضي.
فهل كان هذا الفشل هو آخر عهد تركيا بالانقلابات العسكرية أو شبه العسكرية؟
إن إفشال الانقلاب الأخير وضع الكثير من العقبات أمام القوى الانقلابية في الجيش وخارجه، لأسباب عدة، منها:
أولًا: فقدان القوى العسكرية الانقلابية مجدها وقدسيتها لدى المواطن، بعد المحاولات الانقلابية المتعددة التي أفشلت في عهد العدالة والتنمية، خاصة التي حدثت في أفضل سنوات النمو الاقتصادي والحريات السياسية بتركيا في المدة من 2007م إلى 2013م، وكذلك انكسار حاجز الخوف من العسكر وتراجع هيبة الجيش بإفشال الانقلاب الدامي عام 2016م في الشوارع.
ثانيًا: التخفيف من استقلالية الجيش عن منظومة الدولة بجعل مرجعية الجيش لوزير الدفاع، بعد أن كانت تابعة مباشرة لرئيس الجمهورية من ناحية، ودمج قوات الدرك التي كانت تشكل القوة البشرية الأكبر بوزارة الدفاع في وزارة الداخلية مع قوات خفر السواحل لتصبح القوة موزعة بين الوزارتين، على عكس ما كان من تركيز لكل القوة في رئاسة الأركان قبل الانقلاب، وكذلك فقدان العسكر الأغلبية في مجلس الأمن القومي سابقًا ثم لاحقًا في مجلس الشورى العسكري.
ثالثًا: الوعي الجماهيري الذي شكل معضلة في انقلاب 1997م وكان السبب الرئيس في إفشال انقلاب 2016م، فلم تعد الجماهير تقبل بسهولة بمنطق السيطرة على الدولة من خارج صناديق الاقتراع، ومن ذاق نجاح إسقاط الانقلاب مرة فسيكرر محاولته في المرات القادمة لو حدثت.
رابعًا: التعديلات القانونية التي بدأت منذ بداية حكم العدالة والتنمية من زيادة القدرة التسليحية للشرطة الخاصة، ثم توسيع صلاحيات وكفاءة جهاز المخابرات القومي، وكذلك تحديد مهام الجيش بالعمل خارج الحدود، وأخيرًا قرار إغلاق كل المنشآت العسكرية المتاخمة للمناطق السكنية، كل هذه الإجراءات تشكل عقبة لوجستية في وجه محاولات الانقلاب اللاحقة.
خامسًا: فقدان القوى العسكرية أي حجة تدعم موقفها في الانقلاب، خاصة مع التطور السريع الذي تعيشه تركيا في المجالات السياسية والاقتصادية وسقف الحريات العالي مقارنة بما سبق، ويعيشه المواطن رغم كل الانتقادات المحقة في بعضها، خاصة في عصر التكنولوجيا والاتصال الذي يشكل عائقًا أمام الحكومات المنتخبة، فما بالك بانقلاب ضد رأي المواطن؟!
أخيرًا: مع كل التغييرات التي أضعفت قدرة الجيش أو أي تيار في داخله على الانقلاب إن إشراك الجيش في حملات التغيير السياسي لا تخدم بإشغال الجيش في مهمته الأساسية، وهي الدفاع عن أمن البلاد على الحدود وخارجها، لكن أيضًا ترضي نفوس القيادات والضباط بأنهم شركاء فيما يصنع ولهم في الأمر رأي ودور.
ولكن مع كل ما ذكر من الحواجز والمعيقات التي تقف أمام أي محاولة انقلاب؛ خطر الانقلاب لم ينتهِ نهائيًّا، لأسباب يمكن ذكر بعضها:
أولًا: أن الجيش التركي ما زالت عقيدته العسكرية الأتاتوركية هي الغالبة، وتؤمن أن الجيش هو صانع الدولة وحاميها، وأن أتاتورك ترك الجيش وريثًا له في حماية علمانية البلاد، وهذه العقيدة تحتاج لمدة طويلة من الزمن للتغيير، إن كان هناك خطة فعلًا لذلك.
ثانيًا: أن تخلص الدولة من قيادات وعناصر الدولة الموازية في الجيش والدولة أضعف المنظومة العسكرية، ولم يسد الضباط ذوو الميول القومية الحاجة، ما اضطر الحكومة إلى الاستعانة بضباط من التيار الكمالي، وهو الأقوى في الجيش، حتى إعادة بعض من فُصِل من الخدمة على خلفية قضايا محاولات الانقلاب التي لم تدخل حيز التنفيذ، علمًا بأن الجيش التركي يغلب عليه تياران: الأول يسمى تيار الناتو، وهو التيار المقرب من الأمريكان، وعناصر التنظيم الموازي جزء منه، وليس كله، والتيار الأوروآسيوي، وهو تيار يشكله القوميون، واليسار الكمالي، وهو تيار غير مؤثر في السياسة، لكن له وزنه في الجيش، ويمثله السياسي دوغو بيرينشيك.
ثالثًا: أن القوى الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- تسعى بوضوح للضغط اقتصاديًّا على تركيا، ما ينعكس بوضوح على واقع المواطن، الأمر الذي قد يجعله يستهين بمخاطر الانقلاب في مقابل ما يمكن أن يطرح.
وفي المحصلة إن تركيا دولة قطعت شوطًا كبيرًا في التغيير الإيجابي نحو الديمقراطية الكاملة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والفكرية، التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، وواجهت انقطاعات متعددة بسبب الانقلابات العسكرية المتكررة، لكن هذه الحملة التي بدأت بعهد مندريس مرورًا بأوزال وأربكان وأخيرًا أردوغان كانت موجات تراكمية تبني بعضها على إنجازات بعضٍ، فلا ينسب الفضل فيها لأردوغان وحده، على الحجم الضخم للإنجازات في هذه المجالات في عهده، إذ إنه استفاد مما صنع من سبقه.
ومع هذه الإنجازات الكبيرة وضعف الاحتمال ما زال الخوف من الانقلابات العسكرية قائمًا، خاصة مع استمرار تركيا وحكومات العدالة والتنمية بدخول حقول ألغام مصالح الكبار في العالم، ومحاولاتها الدائمة لفرض رؤيتها وحماية مصالحها في قضايا المنطقة حتى لو بالقوة، لكن وعي المواطن التركي من ناحية، واستمرار الحكومة في توسعة مساحات الحرية من ناحية أخرى، وحل الأزمات العالقة كمشكلة الأكراد داخليًّا، والتحرك الحذر في الملفات الشائكة خارجيًّا؛ كل ذلك سيشكل عائقًا أساسيًّا في وجه أي محاولة انقلابية وسيفشلها، كما فعل مع المحاولة الأخيرة في تموز 2016م.