تواصل الإدارة الأميركية الجديدة محاولتها النفاذ إلى قلب المشهد الشرق أوسطي، بالبحث عن سبل ممكنة للبدء بفكفكة تشابكات المشهد العربي، والإقدام على اقتراح صفقاتٍ هنا أو هناك، لإيجاد حل تسووي بمفاوضاتٍ أو غيرها، لقضية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الوطن الفلسطيني، ولكن قبل ذلك هناك مساعٍ أميركية إلى عقد مؤتمر إقليمي أو دولي بمشاركة إقليمية عربية، وإسرائيلية وفلسطينية _دون شك_ في واشنطن، مقدمةً لتأسيس "تحالف إقليمي" يساند الإدارة الأميركية أو يساعدها على إدارة أزمات المنطقة، في محاولة للتوصل إلى إيجاد قواسم تسوية مشتركة بين الأطراف المعنية للأزمتين السورية والعراقية، وفي الشأن الفلسطيني ينطلق الجهد الأميركي الراهن من قاعدة تجريب ما سبق تجريبه طوال العقدين المنصرمين، من دون فائدة تذكر للفلسطينيين، مع عدد الجولات التفاوضية الهائلة المتوقفة منذ ثلاث سنوات، في حين لم يتوقف الاستيطان عن تقطيع أوصال الضفة الغربية والقدس.
ويبدو أن القمة العربية التي عقدت بمنطقة البحر الميت في الأردن أخيرًا لم تغلق الباب أمام الحلم الإسرائيلي الدائم باستبعاد التفاوض مع ممثلين للكيانية الفلسطينية هوية وطنية، وذلك بالالتفاف على ذلك بالاستعاضة عن التفاوض المباشر مع الطرف الفلسطيني وحده، وإشراك أطراف إقليمية ودولية، لا تنحاز جميعها بالضرورة إلى جانب الحقوق الفلسطينية الثابتة، أو تقر بالهوية الوطنية المعبّرة عن تلك الحقوق، وها هي إدارة دونالد ترامب تمضي نحو تكرار ما سبق لنتنياهو أن أفشله على الدوام، لضمان استفراده بالطرف الفلسطيني، وبذلك إفشال أي حل ممكن لإقامة دولة أو شبه دولة للفلسطينيين على جزء من أرضهم التاريخية.
لم تقد حماسة ترامب للتوسط لـ"سلام" في المنطقة إلى استجلاء معطيات الوضع من كل جوانبه، فقد كان يكفيه أن يستطيع جمع عدد من "اللاعبين الإقليميين" للقول إنه يحاول بدوره وفي عجلة من أمره أن يضع أسس عقد قمة إقليمية للإيحاء بحصول تقارب إقليمي بين الإسرائيليين والعرب، قد تفسح في المجال لقيام جولةٍ أو جولاتٍ من التفاوض، كما يأمل صهر الرئيس وكبير المستشارين جاريد كوشنير، ومبعوثه إلى المنطقة جيسون غرينبلات، في ظل تهديدات مندوبة الإدارة في الأمم المتحدة نيكي هالي لكل من يتطاول على الكيان العبري وسياسته الاستيطانية، ويحاول المساس بحصانته في المنظمة الدولية.
واستمرارًا لمسلسل الأحلام الترامبية ذكر أن ترامب طلب من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إعداد حزمة تسهيلاتٍ، من قبيل تقديم تنازلات للفلسطينيين لتحسين الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن يظهر تأثير هذه الخطوات على الفور. وبالفعل، وبحسب ما نقلت صحيفة (هآرتس) يوم الأحد التاسع من نيسان (أبريل) الجاري شدّد نتنياهو في جلسة (الكابينيت) على نية الرئيس الأميركي التوصل إلى صفقة تسويةٍ سياسيةٍ في المنطقة، وأنه بصدد الدفع بمبادرته علنًا، وقال للوزراء: "لا أعلم تحديدًا الخطوات التي سيتخذها ترامب، لكن على (إسرائيل) أن تظهر نيتها الإيجابية، وألا تتصرّف كمن يريد إفشال المسعى الأميركي". وأبلغهم أنه سيوافق على الطلب الأميركي، وأنه سيقوم بخطوات من شأنها التأثير إيجابًا على الاقتصاد الفلسطيني، من دون أن يذكرها، لكن الوزراء ألمحوا إلى أن إحداها قد تكون السماح للفلسطينيين بالبناء في منطقة (ج) التي يسيطر عليها الكيان عسكريًّا سيطرة كاملة، وزعم نتنياهو أنه سيفرض قيودًا على البناء في البؤر الاستيطانية غير القانونية، وأحد هذه القيود منع بناء أو إنشاء أي بيت جديد في هذه البؤر، والإبقاء على ما هو قائم.
أما الفلسطينيون فهم لا يعلقون آمالًا على ما يسوق له الاحتلال في الشأن الاقتصادي، مع مرور عدة سنوات على طرح نتنياهو نفسه مقترحات "سلام اقتصادي"، لم ينفذ أي منها، في وقت بدا يومها _ويبدو اليوم_ أن هذا "السلام" المزعوم لا يتضمن تسوية معقولة ومقبولة من الفلسطينيين، إذ تبتعد عن إمكانية قيام دولة مستقلة، أو شبه دولة، تحتوي على طموحات شعب يكافح من أجل تقرير مصيره على أرض وطنه التاريخي.
وإن كان ثمّة من يراهن على حلولٍ ذات طابع اقتصادي، وتذهب به الأوهام مذاهب شتى، في تجاهلٍ متعمد لقضية شعب فلسطين، ليس مع الاحتلال الثاني فقط، بل أيضًا مع الاحتلال الأول وكيانه العنصري بمجمله؛ فذلك يتطلب رؤىً سياسية مختلفة وتكتيكات وإستراتيجية مختلفة، عما بتنا نشهده من رؤى قاصرة وعاجزة عن الإحاطة بقضية شعب ووطن بحجم الوطن الفلسطيني وديموغرافيته وجغرافيته التاريخية.
أما الانسياق خلف عد القضية الفلسطينية مجرد معاناة إنسانية، تتطلب الغوث والمساعدة وتحسين شروط وظروف اقتصاد سياسي تحت الاحتلال؛ فهو انحرافٌ رؤيوي وسياسي، سوف يؤثر أيما تأثير في عدم التوصل إلى تحقيق ما تصبو إليه الأطراف المعنية، والطرف الفلسطيني تحديدًا، إذ ابتعدت الحلول التسووية عن معالجة القضية، أو القضايا المثارة بشأن إنهاء الاحتلال، وها هنا المسألة الأهم بشموليتها، لا بالنظر إلى جزئياتها، وتجزئة بعضها، والهروب من بعضها الآخر، كما فعلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، طوال جولات المفاوضات التي كانت تنتهي كما تبدأ، بسبب الخلافات المستدامة في استبعاد هذا الملف السياسي، أو ذاك الأمني أو الاقتصادي، لإفشال المفاوضات وانفضاضها، من دون التوصل إلى أي نتيجة تذكر، وحال النيات التفاوضية الآن لا يختلف عن حال المفاوضات القديمة، سوى أن هناك إلى جانب الإسرائيلي إدارة أميركية تدافع وتحامي بشكل شبه مطلق عن كيان الاحتلال، ولن تترك مجالًا للاستفراد به في أي مفاوضات قادمة، خصوصًا إذا كانت ذات طابع إقليمي أو دولي.
مع ذلك كله، ونتيجة زحمة القضايا التي تريد الإدارة الأميركية معالجتها أو النظر فيها، وبدء التعاطي معها، من دون اضطرارها للوصول معها إلى خواتيم معينة؛ قد لا تختلف القضية الفلسطينية عن قضايا كوريا الشمالية وبرنامجها النووي، والعلاقات الأميركية الصينية والوضع في بحر الصين والمحيط الهادئ، والعلاقات المتوترة مع روسيا على خلفية الوضع المتفجر في سورية والحرب على "الإرهاب"، والأولوية التي توليها واشنطن لحربها هناك بين مهمة إسقاط النظام والقضاء على "الإرهاب"، وأيهما له الأولوية، وهل المهمة الأولى تتضمنها المهمة الثانية أم منفصلة عنها.
لا تضع كل هذه القضايا ترامب وإدارته في مستوى الجدّية، وهو يسعى إلى إيجاد حل لمسألة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني العربي، بقدر ما يسعى إلى مجرد تحرّك لاكتشاف كيفية النفاذ إلى تعيين مواقع "الصفقات الحلولية" وموانعها الممكنة، ضمن الهوامش إياها التي أوقفتها عندها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وما تبني ترامب لخطاب سياسي وإعلامي، يجاهر بتبني خريطة طريق غير واضحة لإيجاد حلول لصراعات المنطقة؛ سوى رأس جبل الجليد الذي تتخفى خلفه مؤشرات حربٍ باردةٍ متجدّدة، تُسخّن على وقع معضلات العالم اليوم، تتخفّى في ثناياها خريطة طريق أخرى، تسعى إلى تظهير تحالف إقليمي خاص بالمنطقة، توظفه وتستثمره الولايات المتحدة لمصلحة أهدافها ورؤاها المتجدّدة في صفقات سياسية ودبلوماسية، هدفها حماية "(إسرائيل) أوّلًا"، وربما قبل مصالح "أميركا أوّلًا"، وهو الشعار الترامبي الأثير لليمين الشعبوي الأميركي في عهده الذهبي الراهن.
العربي الجديد