في الأيام القليلة الماضية، أعطى رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وبالتوافق مع بيني غانتس، الضَّوْء الأخضر لعقد اجتماع، بعد العاشر من الشهر الجاري، لما يسمّى بـمجلس التخطيط الأعلى، في الإدارة المدنية، للمصادقة على بناء وحدات استيطانية جديدة، في الضفة الغربية، بعد أن وافق على المصادقة لأكثر من 5000 وحدة سكنية، بعد تجميد التخطيط والبناء في الضفة الغربية منذ شباط/فبراير؛ ترضيةً للإدارة الأمريكية، وحتى لا يُعَرِّض اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين للخطر. هذا ما جاء في آخر تقرير لـلمكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وهذا برهانٌ عمليّ على تهافُت الادِّعاء بأنّ اتفاقات السلام والتطبيع بين دول عربية ودولة الاحتلال، مِن شأنه، ويهدف إلى حمل إسرائيل على التخفيف من احتلالها، أو إنهائه. وهذا يؤكّد أنَّ الاحتلال مسارٌ مستقلّ عن أيّ ظروف محايثة، ما لم تكون ظروفًا قسريّة. فبعد أن عرضت الدول العربية مبادرة السلام العربية على ما فيها من تنازلات كبرى لم تقبل بها دولة الاحتلال، وطالبت بأنْ تطبِّع الدول العربية، أوَّلًا، وهذا ما كان، وما في طريقه أن يكون.
وكانت الجامعة العربية بالدول العربية المؤثِّرة فيها أصبحت أقرب إلى التسليم للمنطق الإسرائيلي الاحتلالي، عمليًّا، بعد أن لم توجِّه لدولة الاحتلال أيَّ ضغوطٍ جدّية، أو أن تهدِّد بأيِّ أوراق تملكها؛ كأنْ تلمِّح إلى إمكان تأثير الاستهانة الإسرائيلية المستمرّة بـاستحقاقات السلام على معاهدات السلام الموقَّعة مع مصر والأردنّ؛ ما شجّع قادة الاحتلال، ليس على إدارة الظهر للمبادرة العربية، بل على توسيع الاحتلال، والاستيطان والتهويد، للقدس، والمقدَّسات فيها، وفي مدينة الخليل.
ومثّل طرح المبادرة العربية، دون أيّ خططٍ موازية لتحقيقها، فرصةً لدولة الاحتلال، التي لم تتوانَ عن استثمارها… ثم خرجت دولٌ عربية إلى الإعلان بأنْ لا مفرَّ من السلام مع دولة الاحتلال؛ للاستفادة من خبراتها، ومن تقدُّمها العلمي والتِّقْني، ومن فرص الاستثمار الاقتصادي معها.
وكانت الحُجَّة ذاتيةً، في الأساس، وهي المصلحة الوطنية، تحت شعار ممارسة السيادة، وأصبح واضحًا، ومُعْلنًا أنَّ الإمارات، مثلا، لا تنطلق، أو حتى لا تراعي الزاوية العربية التي تتطلَّب مناصرة الحقوق العربية المسلوبة، بصفة عامة، ومنها الحقوق الفلسطينية.
ومع ذلك فلا مانع من سَوْق ذريعة مصاحبة؛ أنَّ التطبيع مع دولة الاحتلال من شأنه أن يدفع الأخيرة إلى مزيد من التعاطي الإيجابي مع القضية الفلسطينية، وكأنّ الدول المطبِّعة سوف تحاصر إسرائيل بتطبيعها، حتى تلجئها إلجاءً إلى القبول بما ظلَّت ترفضه، قبل التطبيع؛ مِن تنازل عن أراضٍ تعتبرها قيادةُ الاحتلال، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو ولا سيما في يمينها القومي والديني، أرضَ إسرائيل، التي تحرَّرت بعد احتلالهم لها عام 67.
يروَّج للتطبيع، على أنه سيوفّر بيئة إيجابية للسلام، وأنه سيبني زخمًا فاعلا يشجِّع على التقدم للأمام في عملية صنع السلام…وأنَّ العلاقات الطيبة بين الدول المطبِّعة ودولة الاحتلال ستمنح تلك الدول فرصًا أكبر للتأثير في قيادة الاحتلال، لمَنْح الفلسطينيين حقوقًا أكبر.
والسؤال الجوهري، هنا، هل استجابة دول عربية إلى التطبيع مع إسرائيل، بهذا الشكل المجّاني، المسبَق الدفع، يعطي للأخيرة انطباع قوَّةٍ، عن الموقف العربي، أم انطباع ضعفٍ وتراجُع؟ وهل تنصُّل الجامعة العربية من مبادرتها، ووقوفها خلف الإمارات والبحرين، والراغبين باللحاق بهما، كما تمهيدات حكَّام السودان الأخيرة يمنح الفلسطينيين ورقة قوَّة، أم أنه يتركهم مكشوفين، أمام دولة الاحتلال؟ لتستفرد بهم، فيما هي تمضي، من أوسع الأبواب، إلى قلب المنطقة العربية، باستثماراتٍ اقتصادية، وبتعاونٍ دفاعيٍّ، وأمنيّ، في تدخُّلٍ سافرٍ في شؤون المنطقة، والإقليم ونزاعاته.
وبعد ذلك، ماذا نقول عن فُرَصٍ وفَّرتها اتفاقاتُ السلام الأخيرة لصالح إنهاء الاحتلال، أو تخفيفه، إذا كانت خطَّة ترامب للسلام، المعروفة بصفقة القرن، محكومة، مسبقًا، بقيود كانت الأكثر انحيازًا للرؤية الصهيونية اليمينيَّة المتطرّفة؟
وماذا نقول، إذا كان نتنياهو يفهم هذه الأثمان العربية الباهظة على أنها جاءت تحت تأثير قوَّة (إسرائيل)؛ سلام مقابل سلام؟ وماذا نفعل، إذا كانت آلة الاحتلال لم تتراجع، عن التوسُّع في البناء الاستيطاني، وفي هدم بيوت الفلسطينيين، وفي مصادرة الأراضي.
قد تمنح دولة الاحتلال الدول العربية المطبِّعة بعض الأثمان غير الإستراتيجية، وأحيانا، المؤقَّتة، أو الإعلامية، كما كان في قضيَّة الضمّ، والتي لم تترك إسرائيل لحكَّام الإمارات مجرّد الادِّعاء بأنَّ تطبيعهم أوقف الضم؛ لتتكاثر الأقوال عن أسباب أخرى كانت ماثلةً، قبل إعلان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، وفي أحدث تصريح للسفير الأمريكي في دولة الاحتلال، ديفيد فريدمان أكّد أنّ فرْض السيادة عُلِّق، إلى سنة، أو ربما أكثر، لكنه لم يُلْغَ.
نتنياهو الذي لم يكن مواربًا ولا دبلوماسيا، حين قال في كلمته أثناء توقيع الاتفاق في واشطن، أنَّ هذا السلام يأتي تحت تأثير قوة إسرائيل…واختار نتنياهو هذه اللغة لأنَّ عيْنَه على شعبه، أوَّلا؛ فهو يعلم أنَّ هذا التطبيع المجّاني يزيد من مكانته السياسية، ومكانة النهج اليميني المتطرِّف.
وفي حال فاز مرشَّح الحزب الديمقراطي جو بايدن بالرئاسة، فإنَّ تغييرا جوهريًّا لن يطرأ على الأرض، فهو وإنْ أعلن أنه لن يؤيِّد الضم، وفرْضَ السيادة الاحتلالية على الضفة الغربية، إلا أنه لن يقوم بما يمنع من الاستمرار في إنفاذ هذه المشاريع الاحتلالية، عمليًّا، كما أنه وفق ما أعلن لن يلغي قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
والحاصل أنَّ اتفاقات التطبيع مع دولة الاحتلال هي رسائل تشجيع؛ بأنَّ النهج الذي انتهجه نتنياهو، طوال سنوات حكمه، لم يضرّ بـ(إسرائيل)، بل حقَّق لها السلام، والمصالح الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية، كما كان، في توقيع ستِّ دولٍ مطلّة على ساحل البحر المتوسط، اتفاقية لتحويل منتدى غاز شرق المتوسط، إلى منظمة إقليمية تضمّ إسرائيل؛ إمعانًا في دمج دولة الاحتلال، في المنطقة، كدولة عاديّة. وقد جاءت فوائد هذا التطبيع، في وقت يعاني فيه اقتصاد دولة الاحتلال من أزمات بنيوية، ولذلك ما عليها إلا التفرُّغ لاستكمال مشروعاتها الاحتلالية والاستيطانية والتهويدية.