بعد الصعوبات التي لاقاها النبي (صلّى الله عليه وسلّم) في عام الحزن جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتهوّن عليه، ولتكون معجزة فيها الكثير من المعاني، ولا شك أن التدبر فيها يطول بقدر عظمتها، وفي ذكراها نتعرف إلى بعض دروسها وعبرها من الداعية مصطفى أبو توهة.
أعظم اجتماع
ويقول أبو توهة: "بين يدي هذه المعجزة أقول إننا مدينون لله رب العالمين، ذلك أنه اختار أرضنا لتكون منتهى الإسراء ومنطلق المعراج، مدينون لله لأن فلسطين في هذه الرحلة كانت نقطة الارتكاز بين الأرض والسماء، ثم إننا مدينون لله (تبارك وتعالى) أن انعقد على أرضنا أعظم اجتماع وأشرف لقاء على مستوى القمة للقمم من الناس، والداعي لهذا الاجتماع هو الله (تعالى)، وجماهير المدعوين هم أنبياؤه ورسله، وضيف الشرف هو النبي (صلى الله عليه وسلم)، الذي صلّى بالحاضرين إمامًا في المسجد الأقصى الذي كان في قبضة الرومان حينها، ولا شك أن هذه الرحلة فيها من الحكم والدروس ما الله (تعالى) به عليم".
ويضيف: "أول هذه الدروس المعرفة الحقّة لقدرة الله (تبارك وتعالى) التي تخطّت الزمان والمكان، وكل القوانين والسنن التي تحكم حياة البشر في هذا الكون، لذلك بدأت سورة الإسراء بقوله (تعالى): (سبحان)".
ويتابع: "ثمّ عبّر (تبارك وتعالى) عن صفة صاحب الإسراء بقوله: (بعبده)، درءًا للاختلاط والاشتباه في بشرية النبي، هذا الخلل الذي أصاب عقيدة النصارى في توصيف عيسى (عليه السلام)، إذ قالوا إنه روح من روح، فكان الشرك، وبذلك نفهم من تعبير القرآن أن النبي هو عبدٌّ، سواء أكان في السماء أم كان في الأرض أم كان بينهما، ثم من إيحاءات هذه اللفظة أن من يريد أن تنهال عليه العطيات أو تنسال عليه الهبات فعليه أن يتصف بالعبودية".
ويبين أبو توهة فائدة أخرى من قوله (تعالى): (ليلًا) إذ يقول: "نفهم أن الرحلة توقف فيها الزمن، ذلك أن كلمة (أسرى) تفيد المشي ليلًا، وحتى لا يظّن ظانٌّ أن الرحلة بدأت ليلًا لكنها استغرقت ساعات أو أيام، فجاءت كلمة ليلًا لتؤكد أنها تجاوزت الزمن، فالزمن مخلوق ولا يمكن للمخلوق أن يتحكم في قدرة الخالق (تبارك وتعالى)".
ويضيف: "ولعل من أعظم الغايات التي ابتغاها الملأ الأعلى من هذه الخارقة أن تكون فتنة وتمحيصًا للمؤمنين، وذلك ما أشار إليه قوله (تعالى): "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس"، الفتنة التي نتج عنها نكوص المتشككين والمترددين، وثبات أصحاب اليقين، الذين كان في مقدمتهم أبو بكر الذي كان شعاره: "إن كان قد قال؛ فقد صدق"، ولعل من أهداف هذه الفتنة أن يصفو الصف المسلم لأنه على أعتاب مرحلة إقامة الدولة في المدينة المنورة، فالهجرة كانت بعد الإسراء والمعراج بعام واحد عند بعض الآراء".
وعبرة أخرى ذات علاقة بواقعنا الصعب يتحدث عنها أبو توهة: "ولا شك أن وجود الهزّات والابتلاءات ضريبة وشرط لمن أراد أن يقيم دولة أو كيانًا، ونحن إذ نعيش في قطاع غزة وهو أشبه ما يكون بغار ثور، الذي أحاط به الأعداء من كل مكان، حيث الحصار وتجفيف المنابع، وإيقاف المساعدات، واللعب بأرزاق الناس والتلويح براية الحرب؛ كل ذلك يضع الناس أمام خيارين، فإما أن يرفعوا الراية البيضاء ويستسلموا، أو يكون شعارهم الثبات، لتُبنى على كاهل هؤلاء الصامدين الصابرين دولة العزة والكرامة، التي لا يمكن أن تُقدّم على طبق من ذهب، بل دونها الغالي والنفيس".