لم تبدأ حكاية "أوتا بنغا" الفتى القصير الإفريقي فقط في عام 1904م كما تدَّعي الصحف والمواقع الإلكترونية، بل نشأت قبل ذلك بكثير.
تحديدًا في مؤتمر برلين المعقود ما بين عامي 1884م و1885م، وجلست فيه القوى الاستعمارية العالمية لتتقاسم إفريقيا وما تحويه من خيرات فيما بينها، وبموجب قرارات المؤتمر، حصلت بلجيكا على حصتها من "الفريسة المتهالكة إفريقيا"، وفيه أيضًا دُشِّنت دولة الكونغو الحرة أو الكونغو البلجيكية كما عُرفت لاحقًا، ووُضعت تحت نفوذ الملك البلجيكي، ليوبولد الثاني، الذي قرر حكمها بالمنظمات الخيرية التبشيرية والعلمية تحت حجة تطويرها ونقل الحضارة إليها.
وعادة ما تكون نعمة الموارد الطبيعية الوافرة وبالًا على من يمتلكها من الضعفاء، فقامت الجمعيات التي يترأسها جلالة الملك باستغلال الكونغو الحرة أبشع استغلال؛ نُهبت الثروات واستُعبد الشعب في صورة بشعة ما تزال عارًا على جبين الأمم التي تدَّعي التمدن.
ولضمان السيطرة التامة على البلاد، بإشراف ضباط بلجيكيين أُنشئت فرق مرتزقة من الكونغوليين أنفسهم تجبر السكان المحليين على العمل لاستخراج المطاط بقوة السلاح، وفرضت السلطات البلجيكية ضرائب قاسية على السكان عجزوا عن دفعها، فقادتهم إلى فقدان أراضيهم، وإلى الوقوع في رتق العبودية بعد ذلك.
حدد المسؤولون البلجيكيون كمية معينة من المطاط على كل فرد أن ينتجها يوميًّا، وفي حال الفشل تتوالى العقوبات: هوجمت القرى وحُرقت، وأُعدِم غير القادرين على العمل من الشيوخ والأطفال، وجُلد المقصِّرون، وحُرموا الطعام، وبُترت أيدي عدد لا يُحصى منهم، حتى سميت الكونغو "أرض الأيادي المقطوعة"، وظهرت في النهاية المجاعات والأوبئة، التي تسببت في وفاة مئات الآلاف قبل أن تتحرر البلاد ويرحل عنها المستعمر.
في أثناء ذلك تحديدًا عام 1904م اختطف "صامويل فيرنز" صديقنا الطفل "أوتا بنغا" من قرية كونغولية بدائية، ونُقل مع أطفال آخرين إلى المملكة المتحدة، وكان فيرنز يذهب للكونغو بعباءة الدين للتبشير، ثم يعود بالرقيق لإمداد أسواق النخاسة في بريطانيا.
وفي رحلته تلك بحث تحديدًا عن أفارقة أقزام يشبهون القرود ليبيعهم لباحث يعمل على نظرية التطور يحضر لمعرض في علم الإنسان، سُلم "أوتا بنغا" وبقية الأطفال لإدارة معرض سانت لويس في المملكة المتحدة، وعُرضوا آنذاك تحت مسمى "السلف القديم للإنسان"، حفاة عراة بلا مأوى، يعانون الجوع والعطش، يتفرج عليهم العالم المتحضر ويصفقون بإعجاب قائلين: "يا إلهي!، ما أشبه هؤلاء القرود بإنسان العصر رغم بشاعة منظرهم وضآلة حجمهم!".
تحقق الغرض، وعدّ نصرًا علميًّا واكتشافًا خطيرًا آنذاك، وسالت دموع الفرح والظُفر.
انتهى المعرض، وأُلبس "أوتا بنغا" ملابس "الخواجات" ولكنه تُرك حافيًا حتى لا ينسى حقيقة أنه أدنى من مستوى البشر المتحضرين، وإن أُلبس ثيابهم، وبيع إلى حديقة "برونكس بارك" للحيوان في نيويورك بالولايات المتحدة، وُضِع في قفص للقرود ووضعت في خلفية القفص كمية كبيرة من عظام البشر في إشارة إلى أنه آكل للبشر، وأُجبر على تقديم عروض ضرب بالسهام والقوس، وتحريك أجزاء وجهه بطريقة تُسر الجمهور وتُضحكهم، ورغم منع التصوير داخل الحديقة وصلت الصور إلى الصحافة في الخارج، ما أجبر حديقة الحيوان على إيقاف العرض بعد 20 يومًا فقط.
وبسبب ما كُتب في الصحف عن الفضيحة، نُقل الطفل إلى ملجأ للأيتام السود في نيويورك، لتكتمل سلسلة المعاناة والعذاب والإذلال والشعور بالغربة، وفي بدايات شبابه أصيب "بنغا" باكتئاب دفعه للانتحار بمسدس وجَّه فوهته إلى قلبه مباشرة، ليُسدل الستار على مدار ما يزيد على قرن من الزمان على القصة، بكل ما تحويه من عنصرية بغيضة وجريمة بشعة بحق بني البشر.
خلال ذلك، نُشرت قصص شتى مضللة عن حكاية الفتى لم يكن أولها أنه كان محض موظف في حديقة الحيوان، وأن هناك حبل صداقة متينًا ربط بين الخاطف فيرنز والفتى، وأن الفتى حضر بمحض إرادته إلى العالم المتمدن، ولم يكن آخرها أن الفتى مكث أيامًا عدة في القفص -وليس أطول من ذلك- برغبة منه لإدخال السرور على قلوب المتفرجين من البيض!
وانتبهوا معي، طوال هذا القرن ماطلت حديقة الحيوان والجمعية الحفاظ على الحياة البرية في تحمُّل مسؤولية ما حدث للفتى، وتقديم الاعتذار، بل أصرُّوا على التنصل من كل مسؤولية تدينهم.
وبعد مقتل جورج فلويد الأسود تحت ركبة رجل الشرطة الأبيض، عادت القصة لتطفو على السطح، وتُذكر البشر بالتاريخ العنصري المقيت لأمريكا التي تنصِّب نفسها شرطيًّا يضبط سلوك شعوب العالم، فيُجرِّم من يشاء، ويبرِّئ من يشاء، ويسُن القوانين التي تخدم مصالحه وتعزز من بقاء تفوق العرق الآري في كل شيء، بغض النظر عن المسميات.