في المقال الأول تحدثت عن مواقف الأحزاب والتيارات السياسية التركية ذات التوجه الكمالي واليساري والليبرالي من القضية الفلسطينية وفي هذا الجزء من المقال سأعرج بنوع من التفصيل على الأحزاب ذات التوجه اليميني المحافظ والقومي وتطور مواقفها من القضية الفلسطينية.
تنقسم أحزاب اليمين في تركيا لقسمين هما: الأحزاب ذات التوجه الإسلامي أو المحافظ، والأحزاب القومية، ومن ضمن القسم الأول يمكن تصنيف تيار المللي غوروش (الرؤية القومية) الذي أسسه نجم الدين أربكان.
وتعد أحزاب: العدالة والتنمية الحاكم وحزب السعادة وحزب الرفاه الجديد الذي أسسه نجل الأب الروحي للتيار نجم الدين أربكان أنفسهم من ضمن هذا التيار بل كل منهم يدعي التمثيل له.
وهذه الأحزاب كلها تحمل رؤى مناصرة للقضية الفلسطينية بل ويصل خطابها الشعبي (دون الرسمي) في بعض المواقف للمطالبة بإزالة دولة الاحتلال عن الخارطة وقد يكون حزب السعادة هو صاحب الموقف الأجرأ في هذا المجال لكنه وكما باقي أحزاب هذا التيار حين يطرح مواقفه الرسمية تجده يدور في نفس فلك المطالبين بحل سياسي تحت سقف القانون الدولي وحل الدولتين.
وقد ازداد اهتمام التيار اليميني المحافظ بقيادة المرحوم أربكان بالقضية الفلسطينية منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات حتى أن أنصاره يعتبرون أن أحد أهم أسباب الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980 هو مظاهرة القدس الكبرى في مدينة قونيا قبيل الانقلاب والتي قادها حزب السلامة القومي برئاسة نجم الدين أربكان وحضرها مئات الآلاف وكذلك انقلاب شباط 97، ويقول أنصار التيار أيضا أن ليلة القدس في أنقرة - والتي حضرها السفير الإيراني ورئيس بلدية ضاحية سنجان في أنقرة وكانت بمناسبة يوم القدس العالمي ومناصرة للانتفاضة وحرق فيها علم دولة الاحتلال - كانت من دوافع الانقلاب.
وقد استمر هذا الاهتمام حتى اليوم ولكن على الصعيد العملي فقد اقتصر الدعم في مراحل الثمانينيات والتسعينيات على مؤسسات المجتمع المدني ومر بمراحل صعود وهبوط حسب السقف المتاح من الدولة في حينها وفي الغالب كانت مواقف هذه التيارات تتماهى مع مواقف الحركات الإسلامية الفلسطينية على الصعيد الشعبي والجماهيري.
وما زالت هذه الكتلة هي الأكثر استجابة للأحداث والمواقف الفلسطينية وخاصة المناصرة للمقاومة بكل أشكالها وهي الأسرع تحركا والأكثر قدرة على تحريك أطرها في الشارع حتى أن المهرجان الأخير والذي جمع العديد من الأحزاب والحركات السياسية لرفض صفقة القرن وتهويد القدس كان من تنظيم حزب السعادة ومنظومته الشبابية.
ومع قدوم العدالة والتنمية للحكم تطور الاهتمام لتصبح القضية الفلسطينية من القضايا المحورية في السياسة الخارجية لتركيا والملفات الداخلية المتنافس عليها ولكن العدالة والتنمية مر بمراحل مختلفة من التعاطي مع القضية الفلسطينية ومكوناتها ففي بداية حكمه وحين كان الحزب غير مسيطر على الدولة كان يتعاطى بشكل كامل عبر المنظومة الدولية بل كانت دولة الاحتلال هي بوابة العلاقة وسعت تركيا أن تلعب دور الوسيط في القضية الفلسطينية كما فعلت بين سوريا في عدة مرات لكن ومع ازدياد وتيرة العدوان من ناحية وتطور قدرة الحزب في التأثير بالدولة والسيطرة على مفاصلها من ناحية أخرى وبدء تعارض مصالحه مع مصالح الاحتلال وأخيراً التحول في النهج التركي في السياسة الخارجية من دولة لاحقة للأطراف الدولية لدولة تريد أن تكون شريكة تغيرت مواقفها من القضية فارتفعت وتيرة التأييد السياسي والشعبي للقضية الفلسطينية ومعارضة مواقف الاحتلال.
يختلف حزب العدالة والتنمية في مواقفه الشعبية والأخلاقية عن مواقفه القانونية إلا أنه في الفترة الأخيرة ورغم الضغوطات التي تعيشها أنقره نتيجة الملفات المختلفة داخلياً وخارجياً إلا أن مواقفها الفعلية بدأت تقترب أكثر من مواقفها الجماهيرية من المعاداة العلنية للاحتلال ودعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني إلى التعامل مع الفصائل الفلسطينية جميعا دون محاذير رغم التحذيرات والتهديدات الأمريكية والصهيونية.
ولكن -حتى اللحظة- فإن السقف الرسمي لهذه المواقف لم يتجاوز بعد القرارات والاتفاقيات الدولية وقد لا يكون الدافع الوحيد لدى أنقرة هي الضغوطات بل أيضا القناعات الراسخة في العقل السياسي التركي، بل إن أنقرة في كثير من المواقف خاصة في الفترة التي تسلم فيها وزارة الخارجية علي باباجان طالبت حماس بالتخلي عن السلاح والجلوس على طاولة المفاوضات وكرر ذلك تشاووش أوغلو لكن على استحياء في أحد لقاءاته الإعلامية حين قال أنهم هم من يشجع حماس على الاعتراف بالاحتلال والجلوس للمفاوضات.
أما الشق الآخر من اليمين التركي والذي يشكل حزب الحركة القومية واجهته السياسية والذي كانت السبعينيات والثمانينيات بقيادة المؤسس ألب أصلان توركيش – وهو عسكر ي سابق شارك في الانقلاب العسكري عام 1960- أفضل سنواته من حيث التأثير في الشارع التركي وكان النقيض الرئيسي للتيار اليساري فقد اتخذ مواقفه من القضايا العربية ومنها فلسطين على أساس يعتبر العرب والفلسطينيين اسماً خونة وأعداء واليهود حلفاء وأصدقاء وقد كانت مناصرة اليسار - وهو العدو اللدود للحركة القومية - وتبنيه للقضية الفلسطينية واسنادها حتى بالأفراد من ناحية والمواقف العربية من تركيا خاصة في قضية قبرص وخاصة الفلسطينيين من العوامل المهمة التي شجعت هذا التوجه لدى القوميين الأتراك.
ولست أريد التبرير هنا ولكن ليفهم القارئ مشاعر القوميين الأتراك أسوق بعض المواقف فمثلا شاركت قوات فلسطينية جنبا إلى جنب مع الميليشيات القبرصية المسيحية المتطرفة والقوات اليونانية في مواجهة القوات الشعبية والرسمية القبرصية التركية في السبعينيات في الحرب التي بدأت بسبب المذابح التي نفذتها العصابات المدعومة من الكنيسة اليونانية.
بل إن ياسر عرفات هاجم في خطاب له التدخل العالمي ضد احتلال صدام للكويت متهما الغرب بازدواج المعايير لأنه يسكت على احتلال تركيا لقبرص! وعدم تدخل العالم ضدها كما تفعل مع العراق.
ولكن مع وفاة توركيش وانتقال القيادة للقائد الأكثر براجماتية والأقل تطرفا في قوميته وأبعد عن الفكر الكمالي من سلفه حدث بعض التغير لصالح القضية الفلسطينية وبعد اقتراب الحزب من حزب العدالة والتنمية والمشاركة معه في الحكم أصبحت مواقفه أكثر تقبلاً للقضايا العربية ومناصرة للقضية الفلسطينية وأصبحت النظرة العثمانية التي تشمل الجميع هي الأكثر انتشاراً في قواعد الحزب بل في بعض الأحيان كانت مواقف الحزب أكثر حدة حتى من الحكومة التي يدعمها، ولكن ورغم هذا كله إلا أن سقف الحزب ما زالت تحكمه في نظرته لكل هذه القضايا المصلحة التركية الخاصة.
أما الكتل اليمينية الصغيرة الأخرى فهي إما غير مؤثرة في الشارع أو أن مواقفها تنسجم مع مواقف الكتل الكبيرة الأقرب لها سياسيا أو فكريا أما الأحزاب الجديدة فلم أعرج على مواقفها لأنها حتى اللحظة لم تطرح رؤيتها حول القضية الفلسطينية وإن كان المتوقع من الطرح الفكري والسياسي العام الذي يطرحه أن يكون حزب الدواء بقيادة علي بابجان أقرب للرؤية الدولية بل متبني لها أما حزب المستقبل بقيادة أحمد داوود أوغلو فقد يكون أكثر يمينية في الطرح وقريب من مواقف حزب العدالة والتنمية من حيث الفكرة لكن أقل جرأة في المواقف الجماهيرية أو السياسية.
وفي الختام فإن جميع الأحزاب الرسمية في تركيا على اختلاف مواقفها السياسية والفكرية تعتبر المجتمع الدولي هو سقف حلولها ليس كنظرة واقعية فقط باعتبار أن الواقع يحتم ذلك بل لأن هناك قناعات راسخة في العقل السياسي التركي ترى في حل الدولتين أنه الحل العادل للقضية الفلسطينية، ولكن يختلف المختلفون في تفاصيل هذه القضايا كحق العودة وحق المقاومة وتقبلهم لتدخل تركيا في القضية الفلسطينية بشكل مباشر أو عبر مؤسسات المجتمع الدولي وقد يكون حزب العدالة والتنمية وحكوماته هي الحكومات الأفضل في دعم وإسناد القضية الفلسطينية سياسياً وإعلامياً ودعما إنسانياً ولكن هذا المستوى من الدعم لا يمثل المطالب الشعبية التركية بشكل كامل ومازال سقف الدعم ترسمه الظروف والقضايا المحيطة بتركيا أكثر من كونه الثوابت والمبادئ والحق الفلسطيني.