بعيدًا عن مستنقع السياسة الدنس، ببوصلة سليمة نقية معافاة طاهرة، تظهر جلية منذ بداية الرواية، في قالب لغوي رقيق جذاب، لا تشعر معه بالملل لطول الرواية، رغم الإحباط الذي يداخلك في أحيان كثيرة، لفداحة الظلم الذي تراه بعينك، وتسمعه بأذنك في كثير من السطور، ظلم ذوي القربى حفاظًا على مشاعر عدو غاصب وحقه في البقاء والجثوم على أرواحنا وأراضينا، رغم تعاطف الكثيرين الذين يخشون إعلان مشاعرهم، فتكون قلوبهم مع بطل روايتنا، وسيوفهم عليه.
"الأرض صحراء لولا الورد"، وكان أحمد موسى الدقامسة إحدى الورود الشذية التي قاومت الجفاف والرياح العاتية ونبتت في الأرض اليباب، فضربت جذورها بين حبيبات التربة الصلبة، وشمخت للأعلى. كان يحكي قصة أحمد، ولكنه يحكي قصتنا نحن، مشاعر تتملل ثم تنتفض داخلنا تصرخ بقوة وترفض ما يُملى عليها، فحقنا في هذه الأرض بيِّن كما أن عدونا فيها بيِّن، ومهما تخاذل الكبار، وطأطؤوا رؤوسهم؛ فسيخرج من بيننا أطفال شبُّوا على الإيمان بحقهم فيها، كرروا الحكاية ذاتها.
الليلة أنهيت قراءتي في رواية أيمن العتوم "اسمه أحمد"، فكان لا بد أن أكتب بضع كلمات تعتمل في خاطري.
أوجع قلوبنا الروائي الشاعر الأردني أيمن العتوم في روايته "اسمه أحمد" ونكأ الجراح، وهو المعروف بكتاباته الجادة، وتناوله القضايا التي توجع الإنسان العربي وتحيل عيشه بؤسًا وغمًّا وأشباحًا لا تنفك تطارده حتى في نومه.
الآن وفي هذا الوقت تحديدًا، نحن أحوج ما نكون إلى هذه الأمثلة الحية والنماذج الباسلة من نموذج "أحمد الدقامسة"، المجند الأردني الذي تدور حوله أحداث الحكاية ولا شك أننا جميعًا قد سمعنا باسمه سابقًا على أقل تقدير، وعايشنا تفاصيل العملية البطولية التي قام بها حين أطلق النار على سبع مجندات صهيونيات في الباقورة، المنطقة الأردنية الحدودية التي كانت قِبلةَ الصهاينة للسياحة، وصولًا إلى سجنه وخروجه بعد عشرين عامًا في آذار 2017م.
نحتاج بشدة إلى إعادة سرد النماذج الحية لإخوة العروبة والدم والدين ممن قدموا أعظم التضحيات من أمثال البطل "أحمد الدقامسة" و"سليمان خاطر"، وغيرهما، وما أحوجنا إلى الإصغاء لمبادئه التي آمن بها تجري بمداد قلم ونبض روح الأديب المبدع أيمن العتوم، في وقت يتهافت فيه العرب على الارتماء تحت أحذية الكيان الصهيوني الغاصب والتطبيع معهم وفتح ديار العرب وقلوبهم لهم، وهم الذي شربوا من دمائنا طوال ما يقارب قرنًا من الزمان دون رحمة، ودون أن تسول لهم أنفسهم أن يكتفوا بهذا القدر.
فلسطين يثبتها حب الأقربين ويجبر خاطرها وقوفهم إلى جانبها، ويعينها على الاستمرار إيمانهم بعدالة قضيتها، وما أجمل حكاية الدقامسة التي كُتبت كلماتها وسطورها حرفًا تلو الحرف بالألم والدم، فكم كان المهر باهظًا!
ولكن العروس تستحق، فهي الحبيبة الغالية، التي ضحى من أجلها من لا نستطيع حصر عددهم من العاشقين المتبتلين في محرابها، إنها فلسطين، صغرى البنات، وأرض الإسراء والمعراج!
ورغم فداحة الثمن أدرك باكرًا هذا الشاب العربي المسلم، حفيد صلاح الدين الأيوبي، ويوسف بن تاشفين، وقطز، والظاهر ببيبرس، وغيرهم من الرجال، أن "الحق يُنتزع بالقوة ولا يوهب"، "وأن النية الصادقة وحدها لا تعيد حقًّا ولا ترجع غائبًا"، فأَقدم بكل ما أوتي من إصرار وعشق على ما أقدم عليه ثلاث باغات من الرصاص أطلقها على المجندات السائحات اللاتي سخرن منه وهو يؤدي صلاته، وكان يدرك تمامًا ما ينتظره بعد ذلك، ولكن ذلك ما زاده إلا إصرارًا على إصراره وشجاعة على شجاعته.
رفض الذل، ففي داخله الصقر العربي الشامخ الذي يرفض إلا القمم، يأبى عيش قطيع الغنم يتبع مرياعه، ينام إن نام، ويمضي إلى الهاوية إن مضى.
كتب العتوم تجربة الدقامسة وكأنه عاش لياليها المظلمة خلف قضبان الظلم والتخاذل، واجتاز عذابات التحقيق وآلامها الحارقة التي يعجز حتى إبليس عن الاهتداء إلى أساليبها البشعة غير الإنسانية، وما أغنى تجاربنا نحن العرب مع عذابات السجون وقسوة المحقق والسجان، وحدَّة برد القيد والزنزانة، ما أغنى تجاربنا مع المساومات القذرة الدنسة التي تراودنا عن أغلى ما نملك: شرف بلاد، ومستقبل الأجيال القادمة، فمن يسكر أو يسلك طريق العهر، فهو يسئ لنفسه وسمعته، أما من يجالس الأعداء المعتدين الذين يحتلون الأرض ويسلبون المستقبل، ويسرقون التاريخ ويسجنون الأمل، ويوقِّع معهم اتفاقيات الذل والعار، ويشاركهم في موائد الطعام الفاخر والضحكات الماجنة، فهؤلاء يسيئون للأمة جمعاء، يسيئون لماضينا وحاضرنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا من بعدنا.
أعاد العتوم لأذهاننا صورة العربي المشرقة، الذي كنا نراه في مخيلاتنا الطفولية يلتف بعباءته ويعتمر عمامته ويتقلد سيفه وكنانته ويمتطي صهوة جواده وينطلق عاديًا في الصحراء أيامًا وليالي من أجل نصرة مظلوم وإغاثة لهفان واسترداد حق مسلوب، وآهٍ لذلك العربي الذي كاد يتبخر ويتبخر كرمه وشجاعته وصولته حتى مهابته، ويتمرغ تحت نعال بني صهيون مهيض الجناح، منتهك العرض، مستباح الدماء، أما بلاده فمشاع تتقاسمها الذئاب وتعدو فيها الضباع وتنبح فيها الكلاب.
لأيمن العتوم أقول: شكرًا لك، وشكرًا لالتزامك بالرسالة العظيمة، وإيمانك بقضايا الأمة، ودفاعك عن قيم الأحرار ومبادئ الشرفاء، فإذا لم يكن الأديب صاحب رسالة، وصاحب هدف عظيم رفيع، فلماذا الأدب إذن؟!