فلسطين أون لاين

صلاة العيد في السجون الإسرائيلية.. لئن عدنا لنعيدنَّها سيرتها الأولى

لصلاة العيد في السجون الإسرائيلية نكهة خاصة، أزعم أن أكثر الناس حرية هم هؤلاء الرابضون هناك لأنهم في الخندق الأقرب الملتحم مع أشد الناس عداوة للإنسانية والناس.

هؤلاء الأكثر حرية والأكثر عشقا للحرية يخرجون من زنازينهم لصلاة العيد في ساحة السجن، الحراب مشرّعة عليهم من كل صوب وحدب، قوى البغي والعدوان تأتي في هذه الصبيحة لتشهد أحقادا لهم وهم يصوّبونها ويصبّونها صبّا في جسد الحركة الأسيرة.

من الأسرى من بلغ فيه عيده الثمانين، نائل البرغوثي وكريم يونس وماهر يونس والقائمة طويلة ممن تجاوز العشرين عاما فيكون بذلك هذا العيد فوق الأربعين عيدا، ومن تباشير الفجر الأولى ومع انتباهته من تقلبات النوم في تلك الليلة وما رأى في منامه وما تحرّك في ذكرياته ، بصعوبة بالغة يخرج من عالمه الى عالم الجدران العاتية وشباك السجن الشائكة، تسحبه قدماه جرّا من "البرش" الراقد في مدفن الاحياء الى الساحة ليشهد منافع العيد هناك، يرمق العيون الشامتة التي جاءت لتمثّل كيان الحقد والعدوان، يخرّ سؤال متسللا من سقف الساحة: الى متى وكم عيدا تبّقى لنا في هذه السجون؟

ومن ركام الموت البطيء والقهر الذي يزكم القلوب قبل الانوف تصدح تكبيرات العيد، الاف الاسرى تلهج قلوبهم بالتكبير، وتبدأ عملية التحرير، ينقشع ظلام السجن وقلوبهم ترتجف مع هذه الكلمة الخالدة، هي الكلمة ذاتها التي قالها رسول الله وحرّر بها الناس من طغيان جاهلية حالكة غارقة في الظلم والفساد، هي الكلمة ذاتها التي صدح بها خالد بن الوليد وأبو عبيدة عامر بن الجراح وجحافل الفتح الاسلامي لتسدل الستار على حكم كسرى وقيصر ويبدأ التاريخ بإشراقة السماء على البشرية جمعاء، هي تكبيرة صلاح الدين وقطز والظاهر بيبرس ومحمد الفاتح، هي تكبيرات الثورة الفلسطينية ومقاومتها الباسلة.

 الله أكبر ترتفع بأسرانا المنتظرين دقائق معدودة لصلاة العيد، تكسر الطوق وتتلاشى جدران السجن، تحلّ بهم في فضائها الرحب، يخرج من مرمى أبصارهم السجان وأغلاله ونظراته الشامتة، يرون ما لا يرى سجّانهم وما لا يرى حتى الناس جميعا المحتشدين للصلاة خارج هذه السجون، هناك ينظر أحدهم الى أضحيته ويفكّر في غداء سمين غنيّ باللحم واللبن ولمّة العائلة، هناك يرى أطفاله بلباس العيد المزركش الزاهي، يرى فرحة العيد وسعادة الوجوه النضرة الضاحكة، هنا يرى بدل الاضحية والغداء السمين غداء السجن الغنيّ بالفاصوليا البيضاء، يفكر بأن يضحي بعيد جديد زيادة على أعياده السابقة، يرى مسحة الحزن في وجوه أبنائه المنتظرين طويلا على بوابات الصبر والكفاح الطويل، ينظر في زيارات الغرف واحتضان رفاق الاسر بدل احتضان أرحامه وأبنائه، يجول العيد في خاطره بمراسم مختلفة تماما، ولكن تبقى الله اكبر لتضخ الامل وتزرع يقينا بأن حكمة الله هي الأعلى وأكبر وأن مآلها أن تعلو وتكبر راية الحرية والخلاص من ظلام هذا الاحتلال الذي طال بقاؤه. الله أكبر تخرجنا من بؤس اللحظة التاريخية البائسة وترفعنا الى نهاية الطريق التي يبزغ فيها فجر حرية قادم لا محالة.

وتقام الصلاة ليضع أسرانا كل مكنوناتهم القلبية في حالة من الرضا والاستسلام لقضاء الله ولتزرع في نفوسهم أن الحكم لله وأن الاحتلال ليس قدرا وانما هو عابر كما عبر غيره ارضنا وتاريخنا الذي تقلب في رحابه الظالمون كثيرا ولكن نهايتهم كانت مزابل التاريخ، في صلاة السجن يمارسون حالة الخضوع التام لله وحده فيتحرّرون من أيّ شعور للخضوع لهذا المحتلّ البغيض، يشعرون أن لا سلطان عليهم سيدوم ويستقر الا سلطان الله، يرون بأم أعينهم هذه العبارة القرآنية: وأن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وما الاحتلال إلا تلميذ صغير من تلاميذ الشيطان.

ويعتلي الخطيب المنبر ليدكّ حصونهم ولتعلو كلمة الله العليا فوق رؤوسهم، يوجّه خطيب العيد في السجن رسائله سهاما خارقة ويرخي بظلاله الندية في الوقت ذاته، ظلال تنعش صدور الاسرى وتنير دروب القلب كلّها بما يمتلك من نص ديني حركي عميق، وفي الوقت نفسه هناك يتحدث الخطيب بحريّة تامّة وراس مالها أن يساق للزنازين الانفرادية أسبوعين او ثلاثة وهو مستعد لهذا العقاب أتمّ الاستعداد فيقول قولته الشجاعة الجريئة الحرّة الصاروخية، أذكر أحد الأعياد كنّا في سجن هداريم وكانت إدارة السجون تعد هذا السجن نخبة الأسرى فجاؤوا بأعلى قياداتهم ليسمعوا الخطيب وكان حينها الخطيب الفذّ موسى دودين فأسمعهم ما ساء به وجوههم ، كان مما قال: تريدون منا إبداء الندم على ما قاومناكم به؟ والله لئن عدنا لنعيدنها سيرتها الأولى ولنمعنن فيكم القتل ونثخن في الجرح، الاحتلال والشيطان سواء وليس للشيطان منّا إلا الرجم.

بمثل هذا الخطاب وبهذه الروح التي تظللها تكبيرات العيد يحلّ الاسرى عاليا وهم يجسّدون الامل في الله العلي القدير ثم في مقاومة باسلة تمتلك ما تحني به رؤوس عدوّهم وتعيد لحياتهم بوصلة حرية عزيزة كريمة من جديد.