يعد الصحفيون في طليعة المنادين بسيادة القانون والاحتكام إليه جنباً إلى جنب مع المؤسسات الحقوقية والمدنية، وهذا انعكاس منطقي لطبيعة دور الإعلام في المجتمعات المعاصرة على صعيد التوعية والتثقيف والتنمية الاجتماعية، ولا خلاف على أهمية تعزيز ثقافة الاحتكام للقانون كناظم وضابط للعلاقات في المجتمع وحافظ لأمنه واستقراره، لكن البعض يستثني الصحفيين من تطبيق القانون على ما يبدو عبر لجوئه لــ "فزاعة الحريات" كوسيلة لنقض عرى القانون المنادي بتطبيقه في حالات أخرى، في تناقض غريب وغير مفهوم.
وبكل تأكيد، لا حاجة للتذكير بأهمية القانون وموضوعية ومنطقية الاحتكام إليه طالما جرى إقراره وفق الإجراءات المتعارف عليها، وطالما يحقق مصلحة المجتمع ويدفع عجلة تقدمه نحو الأمام، والأهم من ذلك عدم السماح بـ"الانتقائية" في تطبيق القانون، فهذا أمر يدرك خطورته القاصي والداني، وأي تهاون في ذلك يمثل خرقًا لسفينة المجتمع ودفعًا بها نحو الهاوية، وهذا يجافي الدور المنشود للإعلام وفرسانه باعتبارهم دعائم للبناء المجتمعي.
إن الحالات الأخيرة في المشهد الإعلامي الفلسطيني تثير جملة أسئلة، يتقدمها: هل الصحفي فوق القانون؟!، وهل حرية الصحافة تعني بحال من الأحوال تجاوز القانون؟!، وهل ينبغي الاستسلام لحالة خلط الحابل بالنابل وترك الباب على غاربه لبعض من يسيء لمهنة الإعلام بتجاوزه المهنية والموضوعية وتعديه على حقوق الآخرين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات رسمية أو أهلية؟!، فالإجابة على الأسئلة سالفة الذكر سهلة وميسورة على اللسان لكنها على أرض الواقع غير ذلك.
وبكل تأكيد، ليس مطلوباً ملاحقة الصحفيين والزج بهم في دهاليز النيابة والمحاكم والقضاء، بل احترام المبادئ التي يطالب بها الصحفي قبل غيره والالتزام بها، ويتقدمها سيادة القانون، إذ ليس معقولاً السماح لأحد أن يأخذنا "بدوكة"، ويصلينا بفزاعة "الحريات" ليستبيح أمن واستقرار المجتمع ويهتك عرض مهنة الصحافة بنشر الشائعات أو بتمرير أجندة -سواء بوعي أو بدون وعي- تتناقض مع المصالح العليا للمجتمع، وهنا تتجلى المسؤولية الاجتماعية المطلوب التحلي بها من قبل مختلف الأطراف، مع التأكيد أن مهنة الصحافة ليست مهنة "انشر وامشي"، وأن إدراك تبعات النشر ومدى تحقق عنصر المصلحة المجتمعية يتقدم على أي عناصر قد تشكل سبقاً صحفياً، فبئس السبق على حساب مصالح المجتمع.
ولا شك أن الأمر يتطلب معالجة من حيث تأهيل وتعليم وتدريب الصحفيين حديثي التجربة والعهد بالصحافة، ووضع فكرة السبق الصحفي في سياقها المنطقي والموضوعي، والتركيز بشكل واضح على مبدأ المسؤولية الاجتماعية، وتثقيف الصحفيين أكثر بالأبعاد القانونية باعتبار الكلمة مسؤولية والصورة كذلك، وأن يكون التنافس الحقيقي في ميادين خدمة المجتمع وتعزيز أواصر استقراره وأمنه، والتحذير من انجرار الصحفي لأجندة ضيقة بوعي أو بدون وعي، فذلك لا يعفيه من المسؤولية بحال من الأحوال، وأن عليه إدراك أبعاد ما يتم نشره، وأن يتحمل مسؤولية ذلك، إذ لم يعد يجدي التعامل بازدواجية وبنظام "الطبطبة"، وإلا فلا معنى للتباكي على القانون في حالات مشابهة إن كانت خارج نطاق الصحفيين.
كما لا ينبغي أن يكون عمل الصحفي ودوره الوطني مبرراً لانتهاك القانون وتجاوزه، إذ لا يستقيم الحال حين يعمل الصحفي بروح الفدائي في مواجهة الاحتلال وبروح مثير الفتنة على الصعيد المجتمعي، لذا مطلوب من الغيورين على الحريات وأمن واستقرار المجتمع وسيادة القانون وضع النقاط على الحروف، والوضوح وعدم خلط الحابل بالنابل، لا سيما أننا نناضل معاً من أجل حماية العمل الصحفي المهني والموضوعي بالقانون وعدم السماح بانتهاك حريته، كما أن الصحفي يحمي نفسه أولاً وأخيراً بموضوعيته ومهنيته.
ومما لا شك فيه أن تعقيدات المشهد الفلسطيني والمناكفات الإعلامية بين الحين والآخر تزيد فاتورة الأخطاء المهنية، وتجعل الجهات الرسمية تتعامل بحزم لمواجهتها مادامت بعيدة عن الأصول المهنية ومخالفة للواقع وتمس بأمن واستقرار المجتمع، وعليه، فالمطلوب زيادة جرعة التوعية بالجوانب القانونية وجرائم النشر لئلا نصطدم بحالات تضعنا في مواجهة بين مبدأ الحريات ومبدأ سيادة القانون.