لم أتخيل ولو للحظة بأن المسؤوليات التي كانت بانتظاري ستكون أكبر مني، وأضخم بكثير من قدراتي، لم أدرك أن الإنهاك سيصيبني بهذه العجالة قبل أن أتجاوز الثلاثين من عمري..
ذات عام ربيعي تفتحت زنابقه الحمراء في روحي، وأقاحيه المتراقصة في خيالي، وعلى غفلة مني.. تسرب حبك حتى ملأ قلبي وخيالي وأحلامي فلم يكن بميسوري أن أتصور حياتي بعيداً عنك، غدوت أنت نبض الحياة وروحها.. وفجأة أصبحت على استعداد تام لتقديم التنازلات.. كل التنازلات؛ ليجمعنا بيت واحد. لم يكن السكن في خيمة إلى جانبك بالشيء العسير في نظري، ولم يكن الجوع برفقتك بالأمر الوبال. منذ اللحظة الأولى عاهدتك أن أبذل ما بوسعي لأسعدك، وأعينك في كل شيء.. فهل هناك أعذب وأروع من أن إلى جانبك دوماً؟
والآن وبعد عشرة أعوام معك.. رافقتك في حلو الحياة ومرِّها، أقول:
لقد كنت غرَّة ساذجة لا تعدُّ حساباتها بمنطق الكبار ونظرتهم الناضجة للأمور..
رسائلك ما أزال أحتفظ بها، برغم أن كلماتها ما عادت تجلجل مشاعري وتعصف بأوراق روحي كما كانت تفعل قبل سنوات.. أوراق رسائلك اصفرت وبليت وبَهتت أحبارها.. ولم أستطيع حتى الآن أن أواجه نفسي بالحقيقة الكريهة التي من أجلها أنكرت كل شيء على نفسي، وتنازلت بموجبها عن أغلى الأشياء على معبد حبك.. حتى حريتي ملَّكت إياها فغدوت مثل عبد باع نفسه طواعية لسيده.. وقيَّد نفسه بنفسه بقيود العبودية، بعد نزوة ألمَّت به في ليلة حمقاء.
تصورت الحب الذي ملأ مخيلتي والعواطف التي فاضت في جنباتي يوماً ستغنيني عن الطعام والشراب والمأوى.. أليس صدرك سيكون مأواي وسكني؟ ألا يكفيني حبك ليُشبع أمعائي التي تتضور جوعاً؟ لم أكن لأتقبل يوماً حقيقة أن هذا الحب سيقف عاجزاً عن تلبية أبسط احتياجاتي اليومية، وأنه لن يستطيع الصمود أمام عواصف الحاجة العاتية وأنه ليس بإمكانه أن يوفر لي بيتاً يسترني أو دواءً يسكن آلامي!
اضطرني شظف العيش للعمل خارج البيت لمدة اثنا عشر ساعة يومياً وعلى مدار الأسبوع، علني أوفر بعض الغذاء الدواء لأطفال لا ذنب لهم في القدوم إلى الحياة داخل أسرة لا بيت لها يأويهم، ولا مورد رزق يكفل لهم أبسط الحقوق.
أقضم شفتي الآن وأتذكر وعوداً وردية، وعزفاً على وتر مشاعر ضربت أعماقي مثل موجات مد عاتية، وقلبت كياني.. حين انصعت لتأثيرها وعجزت عن الثبات أمامها..
كم كنت حينها عمياء خرقاء..
صممت أذني عن سماع نصائح أمي وتوجيهاتها وهي تقول:" ستتعبين.. ستغدين تعيسة.. راجعي نفسك.. الحب وحده لا يكفي للحياة.. هناك ضروريات بقاء أضخم بكثير منه، سرعان ما تسحقه تحت وطأة ثقلها..
ولكني أشفقت عليها وأنا أقول في نفسي:" مسكينة أمي.. لم تتذوق شهد الحب يوماً! ولم تغرق في بحره اللذيذ.. فتحت عينيها في بيت أبي الذي هو بمثابة والد لها أكثر من كونه زوجاً ورفيق درب.
أعتذر منك الآن يا أمي.. وأعتذر من نفسي.. اكتشفت أنك كنت محقة.. ولكن بعد فوات الأوان.
ما يدفعني إلى الكد والعناء الآن فقط هم هؤلاء الأطفال.. الذين أسعى بكل ما أوتيت إلى الحفاظ عليهم، ولا أدري إن كانوا سيسامحونني ذات يوم على تقصيري في حقهم حين اخترت وبملء إرادتي نمط الحياة هذا لهم..
أتمنى أن يغفروا لي التجربة الفاشلة التي أعدت تكرارها، برغم أن كثيرين غيري فشلوا فيها..