كان القرار الأكثر مبادرةً للصليبيين عندما احتلوا القدس عام 492ه أن يبسطوا سيطرتهم على الغور الفلسطيني، فلماذا أرادوا ذلك؟
1. الأغوار هي المداخل الشرقية للقدس وبيت لحم وعموم ما يسمى الضفة الغربية اليوم، وجنوبي طبريا وشرقي فلسطين، ومن دروبها تعبر الحياة والقوافل والجيوش والفدائيون الشرقيّون.
2. أنها رخوة أمنيًّا ومكشوفة عسكريًّا، كما أنها سهلة السيطرة والتحكم؛ لأنها واقعة في منخفض حاد تحيط به الجبال العالية ذات الطرق المعلومة المرصودة، ويمكن إغلاق هذه المناطق بسهولة، ومنعها من توريد منتجاتها إلى الأسواق الفلسطينية منعًا كاملًا أو جزئيًّا إن تمرَّد الشعب أو انتفض، أو أراد الضغط عليه لضمان تنازله.
3. وهي الأرض الأكثر خصوبة والأكثر غنى بمصادر المياه، وهي الأعلى إنتاجًا في زراعة الخضار والحبوب كالقمح والفول والعدس.
4. أنها الأكثر دفئًا؛ لأنها الأكثر انخفاضًا عن سطح البحر، فيمكن أن تزرع في شتائها الدافئ محاصيل الربيع والصيف، إضافة إلى محاصيلها المعتادة.
5. أنها مصدر السكّر الأساسي للمنطقة؛ لكثرة زراعة قصب السكّر في أراضيها، وكانت دُور صناعة السكر تعتمد عليها، حتى إن معامل صناعة سكر القصب كانت من جملة الغنائم التي يحرص الغزاة والفاتحون على تضمينها في الغنائم الكبيرة، وذكر العماد الأصفهاني أن صلاح الدين لمّا فتح عكا (تصرف الملك المظفّر تقيّ الدين -وهو ابن أخ صلاح الدين، وأحد أمراء جيشه الكبار- في دار السكّر، فأفنى قنودها، واستوعب موجودها، ونقل قدورها وأنقاضها، وحوى جواهرها وأعراضها).
6. أنها الأرض الأكثر تشجيعًا وترغيبًا للمستوطنين الصليبيين للاستثمار الزراعي فيها واستجلاب المستوطنين من أراضيهم في أوروبا للعمل فيها والتعاقد مع الجيش الصليبي وإدارة مملكة بيت المقدس الصليبية كما يحدث اليوم.
7. كانت مناطق الغور هي الأكثر غنى بالأخشاب، لا سيما شجر السّمُر، وهو مصدر مهم جدًا للوقود وإشعال النار اللازمة للحرب والطبخ والتدفئة.
8. كان معظم سكان الغور من العرب المزارعين أو البدو الرعاة من بني جَرْم وثعلبة وعقبة وعوف وزهير... وكانوا من العامة والفقراء الواقعين تحت إقطاعات عسكرية متغيّرة من السلاجقة والفاطميين والتركمان الناوكية والعشائر وسلطاتها المشهورة بالتمرد في هذه المناطق... وكان يعنيهم بقاء رزقهم وقدرتهم على التنقل وبيع محاصيلهم وأنعامهم وإنتاجها على مدار السنة، ما جعل الصليبيين يمنحونهم تسهيلات كبيرة حفظت لهم بعض مصالحهم، لا سيما أن جيش صلاح الدين لم يستوعب أبناءهم في السلك العسكريّ وأهملهم، ربما لعدم شهرتهم في احتراف العمل العسكري كبقية الأعراق في جيشه متنوع الشعوب؛ ولذلك ترى أن الاحتلال الصهيوني اليوم عمل على عزل أكثرهم عن الضفة الغربية، وأبقى أكثر من 85% من مساحة الغور تحت سيطرته المباشرة، لضمان عدم تواصل هذه المجموعات السكانية العربية مع إخوانهم في الضفتين، ولولا يقظة نفرٍ كبارٍ من أهل الغور وغيرتهم، لكان الغور لقمة سائغة للمحتلين، إذ إن واقع الغور قوي وضعيف في الوقت ذاته.
فهل تغير الحال السابق عن الحال الراهن؟
إنها مقاربة واحدة تتغير ظروفها وأحداثها وشخوصها وعناصرها، وتبقى التجربة متشابهة في معالمها القديمة!