في زمن الغربة هذا، تكاد الأرض تضيق بأهل الحق، ويكاد يعز المكان الذي يؤويهم ويعي شأنهم، فمن يبرز في أمور الدنيا؛ كفن ورياضة وطبخ ومغامرة ... تراه يحوز الشهرة والمال والعلو في الدنيا، ويحفُّه الناس من كل جانب، ويخطبون وده ويتقربون إليه، ولكن هذه المعادلة تضمحل عندما يتعلق الأمر بأهل الدين والقرآن، وخاصة أولئك الذين لا يخطبون رضا أولي الأمر، فلا يجدوا التقدير الذي يستحقونه بل تتجاهل إنجازاتهم.
نشاهد أدوارًا كثيرة للمرأة المسلمة في وقتنا الحالي، فتكون أُمًّا وزوجة ومعلمة ومجاهدة، ويعز أن نرى امرأة تتعلم القرآن فتحفظه بقراءاته العشر المتواترة وتمنح الإجازة لمن يتقن علمها، فأم السعد محمد علي نجم شيخةٌ حافظةٌ مُحَفِظةٌ متقنةٌ للقرآن، هي أشهر امرأة معاصرة في علم قراءات القرآن الكريم، المرأة الوحيدة التي تخصصت في القراءات العشر، وبقيت على مدار نصف قرن من الزمان تمنح الإجازة في القراءات العشر لطلاب هذا العلم من أنحاء شتى بالعالم.
من مواليد محافظة «المنوفية» في مصر، كانت ضريرة، أتمت حفظ القرآن وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وتعلمت القراءات العشر من شيخة أهل زمانها "نفيسة بنت أبو العلا".
قالت أم السعد عن حفظها للقرآن: «ستون عامًا من حفظ القرآن وقراءته ومراجعته جعلتني لا أنسى فيه شيئًا؛ فأنا أتذكر كل آية وأعرف سورتها وجزأها وما تتشابه فيه مع غيرها، وكيفية قراءتها بكل القراءات، أشعر أنني أحفظ القرآن كاسمي تمامًا، لا أتخيل أن أنسى منه حرفًا أو أخطئ فيه، لم أدرس علمًا أو أسمع درسًا أو أحفظ شيئًا غير القرآن الكريم ومتونه في علوم القراءات والتجويد".
تزوجت من الشيخ محمد فريد نعمان الضرير أيضًا، وهو من أوائل الطلاب التي أخذوا عنها هذا العلم، وأمضت معه أربعين عامًا من حياتها لم تنجب خلالها الأبناء، وهو ما أتاح لها الفرصة للتفرغ لعلوم القرآن، تقول: "ربما لو كنت أنجبت أطفالًا لانشغلت بتربيتهم عن القرآن، ولربما كنت نسيته".
بينها وبين النبي (صلى الله عليه وسلم) برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية سبعةٌ وعشرون قارئًا، وكانت المرأة الوحيدة في الوقت الحديث التي سافر إليها القراء وحفظة القرآن؛ للحصول على إجازة في القراءات العشر، وكانت من أكثر المعلمين رفقًا بطلابها وتشجيعًا لهم على الثبات والإصرار والصبر على طلب هذا العلم، وكان لكل طالبٍ من طلابها وقت يومي تخصصه له ليقرأ أمامها ما يحفظ، حتى يتقن حفظ القرآن الكريم بإحدى القراءات، حتى إذا أنهى الطالب إحدى القراءات وأتقنها، منحته إجازة مكتوبة ومختومة بخاتمها تؤكد فيها أن هذا الطالب قد قرأ عليها القرآن كاملًا صحيحًا دقيقًا في القراءة كذا (وتسمي القراءة التي درسها الطالب وأتقنها).
حفظ الله قدر هذه المرأة بالقرآن وأعلى مكانتها.