لا يتغيّر حال أو يتبدل بين شرائح وطبقات المجتمع الفلسطيني الذي يرزح تحت فقر مدقع، وبين إجراءات الاحتلال القمعية التي اتخذت سبيلها في قمع الاقتصاد الفلسطيني كما هو الحال في قمع القيم والمبادئ التي يسعى الاحتلال للنيل منها وتغيير مركباتها بين سكان القطاع والضفة الغربية المحتلة.
ما بين التغير الذي طرأ على الساحة الدولية نتيجة تفشي فايروس كورونا وما يسبق هذا الوباء، يعيش سكان القطاع تحت رحمة الإعانات الخارجية، الإعانات التي يتم بموجبها حصول العاملين في القطاع الحكومي على رواتبهم، وتغطية شريحة واسعة من العوائل الفقيرة في القطاع والضفة الغربية ومخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان وسوريا والأردن وبعض التجمعات الفلسطينية الأخرى المنتشرة حول العالم.
لم يستطع الفلسطينيون التحلّل من تبعية تلك الإعانات، أو العدول عن هذا الأمر الذي أحدث خللاً واضحاً في تركيبة المجتمع الفلسطينية ومنظومته الاجتماعية، السياسية، الثقافية، هذا الخلل الكبير لم تتحمل قط مسؤوليته الهيئات العاملة في هذا السياق، بل هو نتاج لحروب وكوارث سياسية نسجتها قوى الغرب للإطاحة بالقضية الفلسطينية، والإطاحة بكل فلسطيني على قيد الحياة، وحرف بوصلته من باحث للحصول على حقوقه الوطنية إلى باحث عن لقمة عيش تحت وطأة الإذلال والانكسار، فمتى نفيق لنعيد جذور هذا التحول إلى وضعها الطبيعي التي نعرفها منذ عقود؟
العشرات من الهيئات الدولية والمحلية تتسابق في أوج المنافسة لتقديم الإعانات في زمن الكورونا وما يسبق هذا الزمن وما يليه أيضاً، فمن باب المنافسة أن تختار تلك المنظمات المناطق الأكثر فقراً حول العالم، مروراً بفلسطين، وسوريا، ومخيمات اللجوء في لبنان، وميانمار، والبوسنة، والكثير ممن يتعرضون للحروب والإبادة الجماعية، والتهجير القسري من بلدانهم، وفي ظل غياب المنظمات الدولية لحقوق الإنسان تتسع الفجوة بين سياسات وفلسفة تلك الهيئات وبين أهدافها الاستراتيجية التي أُعدت في الأساس لخدمة الإنسان والحفاظ على مستقبله وفقاً لما تؤكده الاتفاقات والقوانين والأعراف الدولية، والتي تهدف كذلك لمكافحة الفقر والتخلف وسوء التغذية والجهل والبطالة والكثير من المهددات البيئية والنفسية التي تتعرض لها البشرية.
وقياساً لمعيار الشفافية وما يتعلق بها من مؤشرات سلوكية ومهنية بعيداً عن هامش الفلسفة، هل تتبع تلك الهيئات ما يتعلق بمعايير الحكومة "الحكم الرشيد" والتي من خلالها تُظهر تلك الهيئات أبرز محددات أعمالها؟
في واقعنا الفلسطيني ومن خلال دراسة علمية قمت بإعدادها، أظهرت النتائج أن المنظمات المحلية تكافح وبقوة للوصول إلى درجة كبيرة من النزاهة والشفافية في عرض بياناتها للجمهور وجهات الاختصاص، ومن هذا المنطلق تُعد المنظمات العاملة بغزة، والسلطات العليا التي ترعى عمل تلك المنظمات في تقدم ملموس من حيث الإجراءات القانونية والأنظمة الإدارية التي تُتبع للحفاظ على سلم الصعود والوصول إلى الهدف المهني الأسمى.
إن ما تقتضيه المصلحة العليا للفلسطينيين في كافة أصقاع الأرض، هو العمل كوحدة واحدة للحفاظ على عدم تسييس الإعانات الخارجية والتي أصبحت بمفهومها الحديث تشكل خطراً على مستقبل القضية الفلسطينية، وبعض المفاهيم أصبحت تحدّد ملامح ووجهات وفلسفات وسياسات عدد كبير من المنظمات، فاليمين واليسار ما هو إلا أحد أوجه العنصرية التي يحاربها الإسلام وقد نُهي عنها في قول النبي صلى الله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى"، ومن هذا المنطلق أصبحت المبادرات الشبابية التطوعية تأخذ صدىً واسعاً في نجاحها وإن كان القانون لا يعطيها هامشاً واسعاً في التحرك بهذا الاتجاه والسلوك، إلا أن بعضاً من تلك المبادرات أصبحت تمثل مركز القوة في هذا المسار. وهذا بدوره لا يضع الهيئات العاملة في دائرة الشك، بل يضعها في قائمة المنافسة الأكثر حدةً لتقديم ما لديها من خدمات وإمكانات أخرى لتثري بها نزاهتها وشفافيتها في الأداء والسلوك.
وفي هذا السياق فإن رحلة البحث عن بناء وتماسك المجتمع الفلسطيني يُوجب على الجميع الأخذ بزمام الأمور في التأصيل لمسار حقيقي يتم من خلاله مناهضة استعمار بعض الهيئات الحقوقية الدولية للإنسان الفلسطيني، كتلك الهيئات التي ترسم سياسات تصفية القضية ونزع ثقافة تجذرت منذ قرون من الزمان بين الفلسطينيين كإرث حضاري يخلده التاريخ ليكون مساراً للأجيال القادمة ومعلماً يهدي تلك الأجيال إلى طريق التحرير.. تحرير الأرض والإنسان.