فلسطين أون لاين

"حِكَايَات قبل النوم.. وَبَعْضِ الْذِّكْرَيَات"

تمنيت أن تسمح لي أمي بقضاء العطلة الصيفية مع جدتي، وبعد إلحاح طويل متكرر، جاءت الموافقة في يوم تموزي حار، بحيث أمضي معها أسبوعين كاملين.. ما إن اقترب الأصيل وخفَّت حرارة الشمس حتى كنت أجمع أمتعتي وأسرع إلى السيارة التي ستنقلني إلى بيتها في القرية.. حللت على جدتي ضيفة عزيزة، بذلت جُهدها لتُدخل البهجة إلى قلبي.. وكما هي عادة الجدات، فإنها لم تكن لترفض لي طلباً مهما كان من المحظورات في بيتنا.

في ليلتي الأولى صلت جدتي العشاء وشرعت تفرش الأرض بحصير من قش، تحت عريشة العنب التي بسطت أغصانها وتكاثفت أوراقها وتدَّلت عناقيدها الناضجة ذات الحبِّ البنفسجي الداكن في حوش الدار.. وضعت فرشتين متلاصقتين. استلقيت في إحداهما المخصصة لي.. أطفأت جدتي الأنوار وتمددت داخل أغطيتها وهي تهمس بذكر الله.. بينما كنت أنتظرها أن تنتهي، انسابت نسمات عليلة حركت الأغصان وأنعشت الأرواح، أخذت أرقب السماء التي تبدت من بين الأغصان المتشابكة.. ظهر القمر بدراً أضاء السماء بضوء لطيف، وبدت النجوم جذابة متلألئة، استغربت لعددها الكبير في السماء، فأخذت أعدها محاولة حصرها ولو بشكل تقريبي، نهرتني جدتي وسط استغفارها قائلة: لا تعدي النجوم..

قلت بمراوغة:" ولماذا؟ عَدُّها يشعرني بالسعادة".

قالت بإصرار:" بِطْلِع لك عطش ليل على وجهك".

أياماً عدة أمضيتها بعد ذلك أفكر في عطش الليل هذا الذي سيظهر على وجهي بسبب عد النجوم.. ولأن كلمة عطش، وكلمة ليل معروفتان لدي، فإني قررت أن أستيقظ كل ليلة مرة واحدة على الأقل لأشرب بعضاً من الماء، لأتحدى هذه النجوم، فأعدها كما يحلو لي دون أن يظهر لي عطش الليل هذا.. فانا لست عطشانة.

ومضيت في تنفيذ خطتي بجدٍّ، خاصة أن النوم مع جدتي تحت العريشة أتاح لي فرصة رؤية السماء عن كثب.. فلاحظت تغير مواقع النجوم، وشكل القمر وموقعه وموعد بزوغه واختفائه كل ليلة، وصراعه مع غيوم الصيف العابرة حتى يبقى متجلياً أمام ناظري.. عرفت نجمة المساء والصباح التي تتبع القمر مثل وصيفة له، وداومت على شرب الماء كل ليلة حتى تمكنت من خداع تلك النجوم، فعددتها كما يحلو لي دون أن تتسبب لي بعطش ليل على وجهي.

رجوت جدتي ذات ليلة قائلة:" احكي لي قصة يا جدتي.. فأنا أحب الحكايات".

ابتسمت جدتي فظهرت لثتها الخالية من الأسنان التي انتزعتها قبل أن تتوضأ لصلاة العشاء ووضعتها في علبة خاصة تمتلئ بالماء، وقالت:" هل أنت مستعدة؟"

- نعم.

- ألن تنامي وأنا أحكي؟

-" بالتأكيد لا.. سأبقى يقظة".

-" إذن.. أعيريني سمعك وانتباهك. كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان...".

حكت لي حكاية الأميرة المتمردة التي تستمتع بمخالفة تعليمات الكبار.. وفي نهاية الحكاية قالت جدتي:" تحولت أرجل الأميرة إلى حوافر تشبه حوافر الخيل، واختفت من قصر والدها وسكنت مغارة نائية في منطقة وعرة، أخذت تظهر بعدها فجأة مثل الجنيات لتطارد من يمر من تلك المنطقة.. تحاول اختطافه وخاصة حين يكون طفلاً".

بثت حكاية جدتي الرعب في نفسي، وولَّدت أسئلة كثيرة أخذت تدور في فلك أفكاري.. وهو السؤال الذي وجهته إلى جدتي ذات صباح وهي تخبز في الطابون:" جدتي، هل يمكن أن يتحول الإنسان إلى ما يشبه حيوان؟"

قالت جدتي باستنكار:" ومن قال ذلك؟ الإنسان يبقى إنساناً ولا يتحول إلى غير ذلك".

قلت:" أنت من قال، فكيف إذن تحولت أقدام الأميرة إلى حوافر".

ضحكت جدتي ملياً وقالت:" تلك مجرد خرافة لا أساس لها من الواقع، هذا كل ما في الأمر، نحكيها للصغار للتسلية".

قلت:" ليتك تحكين لي عن القمر والنجوم التي أراها في السماء.. بدلاً من خرافات تخيفني ولا فائدة ترجى منها".

لم تكن جدتي تعلم الكثير عن النجوم، لذا أخذت كل ليلة تحدثني عن الزراعة والأشجار والطيور والحشرات في القرية، وانقضت عطلتي مثل البرق، وعدت أدراج أحمل في جعبتي الكثير من حكايا القرية وجدتي.