لا بدّ وأنكم تذكرون غولة الحكايات التي تأكل البشر، وتلتهم لحمهم وتقضم عظامهم وتمتص دماءهم حتى آخر قطرة ولا تترك وراءها أثراً لهم.. ولا أشك لوهلة أنكم رأيتموها في مخيلاتكم عندما كنتم صغاراً مثلي، لدرجة أنكم لم تعودوا تجرؤون على الذهاب إلى الحمام ليلاً، أو يدور في خلدكم مجرد الخروج بعيداً عن المكان الذي تجلس فيه الأسرة.
أعيروني أسماعكم وأبصاركم، لأنني أود أن أبثَّ إليكم الخبر المهم الآتي:
"لقد انبعثت الغولة مرة أخرى وعادت إلى الحياة، ولكنها هذه المرة قررت تغيير أسلوب حياتها وسلوكياتها، وصبت إلى التحضر والتمدن مثل البشر. فمثلاً، لقد أحجمت عن أكل البشر؛ فالدماء ما عادت تستهويها، واللحوم ما عادت تثير شهيتها، ولم يعد تفكيرها محصوراً في نهمها للأكل والشرب وتلبية الاحتياجات اللحظية. خرجت من كهفها ذات ليلة قمراء، بعد أن استيقظت من سباتها العميق الذي طال لسنوات وسنوات، لا تدري تحديداً ما عددها.. ودون أن تفطن إلى الباعث الذي أيقظها".
اتجهتْ إلى الجدول بعد أن قررت التخلص وبشكل قطعي من الرائحة النتنة التي تصاحبها أينما حلت أو ارتحلت، غسلت نفسها بالماء جيداً، ثم تطيبت بنبتة عطرية أخالها أكليل الجبل.. شعرت بانتعاش لم تشهده منذ فترة طويلة، ثم مضت إلى طرف الغاب، تجمع بعض الثمار الناضجة وتتناولها بتأني.
عادت إلى كهفها.. استخرجت العباءة التي ورثتها عن جدتها التي عثرت عليها معلقة على إحدى الأشجار، اتَّشحتها ومضت إلى التجمعات البشرية تطوف بينها وتستطلع أحوالها وفي نيتها المبادرة في تقديم المساعدة لمن يحتاجها.
خلال أشهر عدة طافت الغولة الأرض من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.. لم تترك مكاناً إلا ونزلت به وعاينته عن قُرب على بساط يطير بها في الهواء، ويختصر المسافات والأرجاء. في نهاية الرحلة جلست الغولة تنتحب بحزن وأسى.. وفي ذهنها تدور فكرة واحدة: أن تعود مرة أخرى إلى غابها وتعتكف في كهفها.
خرج مارد المصباح من قمقمه يفرك عينيه والانزعاج بادي بوضوح في وجهه، نفض الغبار عن نفسه، وقال:" ما بك؟ لقد أيقظني نحيبك من سبات امتد لسنوات بعيدة.. ماذا جرى؟ هل تهدَّمت الأرض على ساكنيها؟ هل انهارت الجبال، أم فاضت البحار والأنهار؟ هل ثارت البراكين أم ارتجفت الأرض وتزلزلت؟ على كل حال، مهما حدث، فلا شيء يستحق دمعة منك.. إنهم يستحقون.
لم تتوقف الغولة عن البكاء. خرجت الجنية بتكاسل، تراقصت في الهواء بلامبالاة، ولوحت بأذرعها الطويلة وأكمامها المهدبة بعجرفة وهي تقول:" هيا أيتها المزعجة، ما بك؟ لقد أيقظتِ سكان العالم السفلي بِنَحيبك، فما الذي جرى؟ على ما يبدو أنك كنت في جولة في عالم البشر.. أليس كذلك؟ اعترفي.. ما الذي أغضبك منهم؟ أتكون الشفقة قد أكلت من قلبك حتى أُتخمت؟؟ بوحي لي، وإذا أردت، أستطيع أن أقضي عليهم في طرفة عين..
لم تنبس الغولة ببنت شفة، بل تابعت نحيبها. انسلت الأفعى أم قرنين من جوف الصخور، تزحف بتثاقل وفتور، وقالت بفحيح مريع:" يبدو أن القيامة قد قامت!! ما الذي أيقظكم في مثل هذا الوقت؟ أليس من المستغرب أن نجتمع جميعاً الآن في هذا المكان على نحيب مرتفع؟ أتذكرون مقولة كبير العرافين؟ إننا لا نقوم من سباتنا، ونعود للاجتماع مرة أخرى إلا عندما يعمُّ فساد البشر في البر والبحر، وينتشر ظُلمهم، ويسفكون دماء بعضهم بعضاً، ويدمرون الأرض ويلوثونها ويسممونها.. فلا تعود تصلح للحياة.. يظهر فيهم وباء يجمِّد عالمهم ويحصد أرواحهم.
شهق الجميع دفعة واحدة: الجنية ومارد المصباح والغولة.. وقالوا بصوت واحد: إذن هي النهاية.. سُحقاً للبشر.. تباً للبشر.