فلسطين أون لاين

هل أستطيع أن أغفر لأبي؟!

شرعت أعي، دون أن أدري تمامًا ماذا يعمل والدي، ربما لصغر سني، كان يغيب عن البيت مدة طويلة، تصل إلى حد المبيت خارجه، والدتي قليلة الكلام كثيرة الشرود، خاصة عندما أحاصرها بأسئلتي الكثيرة، تردُّ علي دائمًا بجملتها المقتضبة المبهمة: "خرج والدك ليحضر لنا نقودًا".

كبرت، وكبر إدراكي، أخذت تدكُّ قلبي شكوك ملحَّة في والدي وغيابه عن البيت، فماذا يعمل تحديدًا يا تُرى؟، لماذا ليس لديه وقت ثابت للعمل مثل بقية الناس؟، لماذا يعمل أيامًا عدة متواصلة أحيانًا، وأحيانًا أخرى يعتكف في البيت مدة أطول لا تراه الشمس ولا يلمح خيوطها الدافئة؟، وما هذا العمل الذي يُدر عليه هذا الدخل الوفير الذي يمكِّنه من تلبية جميع احتياجات الأسرة وشراء المجوهرات لوالدتي؟، ما هذه الاتصالات الكثيرة والأرقام غير المعروفة التي تأتيه فيرد عليها بصوت هامس أو يبتعد عنا ويوصد الباب على نفسه ليتحدث بحرية؟

أنهيت الثانوية العامة بمعدل ممتاز، واخترت كلية الطب لأبدأ مشواري منها، خاصة بعد تشجيع ودعم والدي، كنت على علم مسبق بالتكاليف المرتفعة جدًّا لدراسة الطب، ولكن والدي طمأنني أن لا تقلقي بشأن هذا الأمر، في السنة السادسة في كلية الطب، داهمت السلطات منزلنا واعتقلت والدي في وقت لم أكن فيه بالبيت، علمت الخبر من الجيران، وشاهدت في عيونهم الغمز واللمز الذي وجه إلى قلبي طعنات فتكت بي.

وُجهت إلى أبي تهمة العمالة، أصبت بصدمة عنيفة، وتمنيت لو أنني لم أكن يومًا موجودًا في هذه الدنيا.

كيف له أن يكون عميلًا دفعةً واحدة؟!

من قال ذلك؟!

وهل من السهولة بمكان أن تلصق تهمة كهذه بأي إنسان؟!

يا إلهي!، هي ليست مجرد تهمة؛ فهناك أدلة وإثباتات.

ماذا يعني ذلك؟، أيكون والدي عميلًا حقًّا؟!

-أمي، لماذا فعل والدي ذلك؟!

-لأجلك وأجل إخوتك، لا يريدكم أن تعيشوا فقراء محرومين، مثلما عاش هو طفولته، فلم يتعلم وذاق الأمرَّين وهو يكابد الحياة ويصارعها.

-ولكنه شوه سمعتنا ومرغ رؤوسنا في الطين، ألم يجد عملًا آخر شريفًا يجنِّبنا ما وقعنا فيه؟!

-هو أراد لكم أن تصبحوا أطباء ومهندسين وأثرياء، ولم يكن بمقدوره أن يحقق ذلك بغير تلك الطريق.

 -كيف وقع أبي في هذا الوحل؟

-راجع والدك مكتب التنسيق الأمني للاحتلال مرات عدة يروم الحصول على تصريح يمكنه من الدخول إلى مناطق الـ(48) للعمل، رُفض طلبه مرات ثلاثًا، وفي المرة الرابعة أجرى ضابط معه مقابلة وعرض عليه العمل معه، وعده بسرِّية العمل، وأكَّد له أنه لن يطلب منه أشياء خطيرة، فقط هي معلومات بسيطة كل الناس تعرفها، لا يوجد أسرار نهائيًّا، وفي المقابل سيحصل على تصريح، ومبالغ تمكنه من العيش بكرامة.

خشيت عمله هذا، ولكني لم أجرؤ على ثنيه عن عزمه؛ فقد كنا فقراء لا نمتلك شيئًا، كنت أنت طفلًا صغيرًا حين همَّ صاحب البيت بطردنا لتراكم ديون الأجرة علينا، ولم يجد والدك عملًا يكفينا ويمكننا من العيش بكرامة دون أن نضطر إلى مد أيدينا للناس، وهل تعتقد أن هناك من يعطيك بلا دين أو ميزان؟!، اضطر والدك إلى اختيار هذا الدرب الشائك، غير مضمون العاقبة لأجلكم وأجلي.

-أبي أساء لنا ولنفسه، أصبح الجميع يتجنبني، ويعايرونني به، ليتكِ ضغطت عليه لئلا يتورط في هذه الطريق، فيحفظ نفسه وسمعته ويحفظنا معه!

-لو أني فعلت؛ ما كنت ستدرس الطب، وتتزوج قبل أن تُنهي دراستك، وتعيش بالرفاهية التي تغرق فيها الآن، كنت ستضطر إلى العمل في سن صغيرة مثل كثير من الفتية الذي تراهم يتسكعون هنا وهناك في المدينة، ويلحُّون على المارة ليشتروا منهم، يتركون مدارسهم باكرًا ليساعدوا أسرهم، ولو بدخلٍ قليلٍ.

-ولكن هؤلاء الفتية لا يحنون رؤوسهم خجلًا من العار الذي لحق بهم مثلي ومثل إخوتي، ولا يتجنبون النظر في عيون الناس مثلنا، ليتنا كنا فقراء بشرف، سيكون أفضل لنا من أن نكون عملاء دون شرف، لا أدري ماذا سأقول لابني عندما يسألني عن جده، هل سأقول له إنه كان عميلًا؟!، كل حفيد يريد جَدًّا يسمع عن بطولاته وشهامته، لا جدًّا وشى بجيرانه وأهل بلده، ليتك لم تفعل ذلك يا أبي!