كان ذلك اليوم هو الزلزال الذي قوض أركاني وهدم كياني إلى غير رجعة. كرهت ضعفي، وكرهت أنانيته وتخليه عني. هبَّت العاصفة الهوجاء في البداية داخل نفسي، اقتلعت استقراري الداخلي من الجذور وغرست بدلاً منه مخاوف وهواجس لا نهاية لها، وتركني صريعة لا حراك فيَّ.. ليت تلك العاصفة شبعت أو أصابتها تخمة.. بل كانت مثل ذئب يتضور جوعاً، ما إن يأكل حتى يعود أكثر جوعاً من السابق، هاجمت بيتي وسكينتي وأحالتهما إلى أطلال وخراب.. عواؤها لا يهدأ، ودورانها لا يخفّ أو يتوقف.
أقنعتني الممرضة بضرورة توجهي للفحص، كان كلامها لطيفاً مقنعاً أشعرني بالمسؤولية تجاه نفسي، مثل مغناطيس انجذبت إليها وسرت أتبعها.. نصف ساعة من الفحص كانت كفيلة بتغيير حياتي.. لا أدري إن كان إلى الأسوأ أم الأفضل. "سرطان من النوع الخبيث في الثدي الأيمن".
لملمت نفسي ودموعي، وعدت متعثرة الخطى أبحث عن نصفي الآخر، أنشد عنده بعض السكينة من أحزاني التي تغرقني وهواجسي التي تخنقني.. ظنَّاً مني أنه سيشد من أزري ويرتق ثقوب نفسي، يمسح دموعي ويضمني إلى صدره بحنو بالغ ودفء واحتواء.. ولكن ما حدث كان شيء آخر..
لا أدري كيف تحول إلى وحش ضاري.. ذئب له مخلب وناب وعواء في ليلة اكتمال القمر، يحدوني الأمل أن يعود إلى آدميته تلو ذلك.. ولكنه لم يعد.. بقي هو الذئب، وبقيت أنا الضحية، وظل بلا رحمة ينهشني، ويمزقني أشلاء.. يلطمني، ويشتمني، ويبعثرني في كل الأرجاء.. لم أدرِ ما تهمتي.. فهل يكون المرض تهمة وجريمة ارتكبتها مع سابق إصرار وترصد؟؟ كان يقول لي عندما يلمح ظل ألم أو حزن في عيني: موتي وحدك.. لا أرغب بسماع شيء من قرفك هذا، نفسي غدت تشمئز منك.
لم أكن لأصدق ما تسمعه أذناي! عشرون سنة من العشرة أمضيتها إلى جانبه بحلوها ومرها، رفيقة دربه المخلصة.. المحبة، طوال الوقت كنت داعمة له، خادمة في بيته، يناديني فألبي، يأمرني فأطيع.. غير كفيلة بأن تجعله يحتمل ضعفي ويقف معي في مرضي ويعينني على اجتيازه بأمان أو الموت بسلام؟؟ أليس هو ابن عمي الذي ارتضاه لي والدي زوجاً ورفيقاً وعشيراً؟؟ لو أننا نعكس الصورة، فيكون هو من اكتشف إصابته بالمرض الخبث، هل كنت سأتخلى عنه؟ هل كنت سأسيء معاملته وأطلب منه أن يموت وحده بعيداً عني؟؟
أبداً ما كنت لأفعل ذلك.
لا يرى فيَّ الآن إلا الأنثى الناقصة، مبتورة الثدي، مقرفة المنظر.. ولكن السؤال الذي يلحُّ على تفكيري دوماً هو: من منا يضمن لنفسه الصحة والكمال؟؟ من منا يضمن لنفسه القوة والسلامة؟؟ أليس كل بشري بحاجة للآخرين؟ بحاجة لدعمهم وتشجيعهم وتفهمهم لمشاعره ومساندته فيما يمر به من أزمات تعصف بكيانه؟
برغم تخليه عني إلا أن الله عوَّضني بكثيرين يلتفون حولي بقوة، يسدُّون الثغرة العميقة التي خلَّفها غيابه، ليس أولهم أبنائي اللذين غدو حريصين على مشاعري وراحتي أكثر من ذي قبل، وليس آخرهم أفراد الطاقم الطبي الذين يعاملونني بلطف وحب ولين حتى أصبحوا هم أهلي وأسرتي التي لم أولد بينهم.
كلمة أهمسها في أذنك يا زوجي وفي أذن كل زوج: ما من شخص يمكنه مساعدة المرأة على اجتياز أزماتها مثل شريكها الذي تحبه، وتتوقع منه الدعم والتضحية.. فإذا كانت هي تضحي طوال الوقت، فهل يكون صعباً على الزوج أن يضحي لبعض الوقت؟؟