كان العمل السياسي عند العرب تبعًا لسياقات أعراف وتقاليد وثقافة جاهلية، ولما كان التناحر القبلي سيد الموقف كانت السياسة تدور في فلك القبيلة، وخلف بداوة متخلّفة لا تحمل رؤية محددّة الملامح، ولا تعطي اعتبارًا لمعادلات وموازين يتعارفها الناس بطرق تتجلى فيها السياسة بصور حضارية متطورة، وكانت أيضًا أعراف القبيلة تحتكم إليها مكونات المدن الرئيسة دون أن ترتقي إلى الفهم والنمط المدني في الفهم السياسي، تحكمها القبيلة ويحكم القبيلة الفرد بصلاحيات مطلقة متمثلة في الشيخ، وإن لجأ إلى الشورى فإنها لا تكون ملزمة.
وفي شمال جزيرة العرب كانت قبيلتا المناذرة والغساسنة قبيلتين كبيرتين تدوران في فلك الروم وفارس، ولم تكن لهما استقلالية سياسية، وإنما كل منهما تبع سياسة دولة عظمى يواليها ويخضع لها (الفرس والروم).
عندما بُعث محمد (صلى الله عليه وسلم) بدأ رسالة الإسلام بمفهومها الشامل، فكان قمة الأداء البشري في كل أوجه النشاط الإنساني، وكان منها إرساء قواعد للفهم والعمل السياسي، وبني عليها لتنجح نجاحًا باهرًا منقطع النظير، وسأحاول تعداد بعض النقاط المهمة في هذا المضمار:
- من أهم سمات العمل السياسي الذي رست قواعده في حينها في المجتمع عامة وفي قيادته خاصة أنه سياسة حرّة مستقلة، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تكون خاضعة أو تابعة أو تعمل وفق معادلات وموازين الآخرين، فمنذ الكلمة الأولى والأهم (لا إله إلا الله) انطلقت السياسة الحرّة والمستقلة تربية في النفوس وممارسة في السلوك والمواقف السياسية والبرامج والمنطلقات والتوجهات ورسم الخطط والأهداف ودراسة الجدوى والمآلات، لذلك كان التحرر الكامل من أعراف وعادات وأفكار وتصورات الجاهلية التي كانت سائدة ومستحكمة قبل المشروع الإسلامي والأهواء، وكذلك كان لابدّ من التحرّر من النزعات العصبية والانحرافات التي من الممكن أن تتسلل إلى العمل السياسي في أي وقت بتزكية السياسة، كما هي الحال في تزكية الأنفس، وكان لابد من تهيئة الفهم السياسي إلى الضرورة المطلقة أن يكون مستقلًا ولا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يدور في فلك الآخرين، كما كان عليه حال الغساسنة والمناذرة، وهذا ما كان بالفعل من عملية تحرير نفسي وعملي وبناء الفهم على الاستقلال والسيادة والحرية.
- أعطى العمل السياسي في المشروع الإسلامي الأول مساحة واسعة لإعمال العقل، فلم تكن المبادئ الدينية مقيدة ومُغلقة للعقل في العمل السياسي، بل أطلقت له العنان ولم تقيده إلا بالمقاصد العامة للدين، وهي ضرورية لتحقيق مصالح الناس وتحقيق سعادتهم بتحقيق العدالة ورفع المظالم، فكانت الأخلاق فوق السياسة والسياسة منضبطة بالأخلاق، فلم تقع السياسة في المشروع الإسلامي الأول في الظلم والفساد، ولم تغرّها سطوة قوتها فتمارس الاستضعاف والقهر على الآخرين، بل كانت سياسة منسجمة مع الأخلاق والقيم التي تريد تحقيقها في هذه الحياة، وكان للعقل أن يعمل عمله دون الوقوع بسياسة جاهلية عمياء، أو تقليد لا يرى متطلبات الواقع، أو أخذ بالظن بعيد عن المنهج العلمي في التفكير واستقراء المطلوب بالأدلة القاطعة، أو الوقوع في براثن الغاية والمصلحة بسياسة ميكافيلية تبرر الوسيلة والجريمة للوصول إلى الغاية.
- ضبط العلاقة بين الشعار والممكن: فإذا كانت السياسة فن الممكن وحشد الإمكانات المتوافرة للوصول إلى الأهداف؛ فإن المشروع السياسي الإسلامي الأول برع في توظيف الممكن وإدارته بنجاح دونما أيّ تبديد أو تقصير، وهنا تجد من يوغل في الشعار والمبدأ ولا يحسب الإمكانات المتوافرة، وقد لا يجيد توظيفها التوظيف الصحيح؛ فيخطئ في حق الشعار خطأ كبيرًا ويساهم في تنفير الناس منه، وهناك من تدفعه ظروفه الصعبة وحالة ضعف وتردي الإمكانات إلى التراجع ونكوص الشعار المطروح على عقبيه، كانت التجربة الإسلامية الأولى في حالة توافق كبير بين الشعار المطروح والقدرة العالية في تقدير الممكن، وكل ذلك خاضع للموازنات السياسية الدقيقة والقدرة العالية على تسديد الممكن في خدمة الشعار، بداية الدعوة الإسلامية مثلًا لم تحطم الأصنام وصبر عليها قرابة عشرين سنة إلى أن فتحت مكة وجاء وقتها المناسب، ولم يتوجه إلى خيبر إلا بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية نفسه كان وفق معادلات تقدر الممكن وتفتح أفقًا للعمل الدعوي والسياسي إلى أن تنضج الظروف المواتية وتتوافر الإمكانات المطلوبة لتفتح مكة دون حرب أو إراقة دماء.
- السياسة وعي جمعي وعمل جماعي مشترك: لم تكن القيادة تُغرّد وحدها وتتخذ قراراتها بعيدًا عن وعي المجتمع المسلم، كان المجتمع المسلم الجديد يُبنى بروح جماعية، هناك ثقافة جديدة تنتشر وتبنى قناعات على العمل الجماعي من العبادة والصلاة محضنًا تربويًّا نفسيًّا جماعيًّا، يعيد تشكيل الفرد وينقله من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية التي يصبح فيها هذا الفرد عنصرًا في فريق عمل متعاون ومتكامل، إلى العمل السياسي العام في إدارة شئون الناس ونظم العلاقات الخارجية بحالتيها المسالمة أو المحاربة، المجتمع كله فريق منسجم تضبطه علاقة حسنة بين الحاكم والمحكوم، وكلّ يتابع كل صغيرة وكبيرة في الشأن السياسي بفهم عال وبدور مهم منوط به وبحركته مع هذا الفريق.
- السياسة بين التنظيم والدولة: كان جديدًا على العرب أن تكون لهم دولة، كيف حدثت النقلة النوعية في الفهم والعمل، من جرأة ومغامرة وحسابات التنظيم إلى معادلات الدولة وموازناتها التي لا تحتمل المغامرة؟، وإنما هناك مكتسبات تراكمية لابد من رعايتها والمحافظة عليها وفي الوقت نفسه لا تفقدها شجاعتها ولا تقف عقبة أمام تحديات جديدة من نوع آخر، هناك خبرة مكتسبة وقدرات سياسية عالية تصقلها التجارب القاسية، وقد انتقلت السياسة العربية من مستوى القبيلة والفردية المطلقة إلى دور المؤسسة والدولة بالروح الجماعية التي سبقت هذه النقطة، وكانت الحكمة ضالة المؤمن فاستفادت الدولة الناشئة من كل الخبرات المحيطة وانفتحت داخليًّا وخارجيًّا على كل الطاقات المتاحة، أخذ رسول الله من سلمان فكرة حفر الخندق خط حماية متقدمًا، وأخذ عمر نظام الدواوين في العمل الإداري من فارس، واستفاد من دهاء عمرو بن العاص في مفاوضة هرقل الروم وقال: "رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب"، وكان لهذا الانفتاح أن يستفيد من كل العلوم والخبرات المتوافرة ولا ينغلق العقل السياسي على الذات لينحصر في دائرة ضيقة تُضيّع الكثير من الخبرات.
بالفعل كان ميلادًا جديدًا عظيمًا لعمل سياسي سيادي حرّ ومستقل وكفؤ ومنافس وقادر على المساهمة العظيمة في البنيان الحضاري الإنساني بطريقة غير مسبوقة، لم يكن ليقوم هذا النهج الإنساني العظيم إلا بميلاد سيد البشرية محمد (صلى الله عليه وسلم).
ومن المؤسف والمؤلم حقًّا أن نجد السياسة العربية اليوم وقد غرقت عميقًا وابتعدت كثيرًا عن هذا المنهج النبوي العظيم، خسرنا سيادتنا السياسية وعدنا مناذرة وغساسنة هذا العصر، ندور في فلك الآخرين ونلغي عقولنا، ونرمي أنفسنا بعيدًا عن ماراثون الأمم المتسابقة في تشكيل الحضارة الإنسانية المتقدمة، لاشك نستثني بعض الدول الإسلامية التي تحاول الصمود بسياسة سيادية حرّة مستقلة هي مرتكزها الأول في فعلها السياسي المعاصر.