يبدو أن الربط بين هذين الموضوعين في غاية الغرابة ..
وجدت نفسي أمام فتاة لولا أن الحرية مزروعة بداخلها وقد أستوت على سوقها لتعجب الزراع وتغيظ الكفار، لولا أن الشعور بالعزة والكرامة قد تجذرت وأنبتت في صدرها من كل زوج بهيج وكانت جنة ونعيما وعزما وقوة وارادة لا تلين ، لولا أنها حرّة حتى النخاع لما صبرت وصابرت في خندق هذه المعركة القاسية .
ليست هذه المعركة وقد كشفت عن ساقها بكل قسوة وضراوة معركة عادية ، عندما تواجه فتاة وحدها وبأسلحة ثلاثة لا تملك غيرها : ايمان وارادة وأمعاء خاوية ، تواجه دولة تمتلك كل أسلحة الدمار الشامل وتمتلك خبث العالم أجمع وحقد التاريخ كله ، وتمتلك في جيبها الصغيرة ماكينة اعلامية مهولة وامكانات دول عظمى ولها باع ممتدة على دول المنطقة ، تعبث في عقول زعامتها ، "قد خلا الميدان لحميدان" ، تصب جام كل ذخيرتها في حرب تشنها على فتاة مضربة عن الطعام . ثمانية وثلاثون يوما لغاية اليوم وحدها في المعركة تواجه أساطينهم العاتية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار أن هذه تجربة أولى ، تُقرّر وحدها وتخوض معركة وحدها وتصر على هدفها دون أن تنحني لحظة أو تضعف ثانية تحت وطأة الجوع وتهاوي الجسد ، المعركة ليست معركة عادية بل هي تكاد تكون معجزة أو دربا من دروب المستحيل .
هنا لنا أن نقف أمام سؤال كبير ، ما هي طبيعة هذه الشخصية وكيف صنعت وكيف اترعت بالحرية لتملأ فضاءها كله ، انها مدرسة عظيمة علينا سبر غورها لنرى كيف يُصنع الاحرار ؟!
لقد أعادتنا هذه الشخصية الفذة وأوقفتنا وجها لوجه أمام الكواكبي في طبائع الاستبداد ، الاستبداد والقمع والضرب لا ينتج الاحرار بل ينتج العبيد ، لقد أعادتنا هبة أمام عنترة عندما طلب منه سيده أن يكرّ على الاعداء فتساءل أيكرّ العبد ؟ فما كان من سيده الا أن قال له : كرّ فأنت حرّ .. تحرّر أولا ليكون قادرا على أن يحارب وينتصر .. لم تنتج عصا المدرسة ولا أي شكل من أشكال الاستبداد شخصية هبة، وانما هي صناعة فريدة ينبؤنا ما نراه منها من ممارسة لحريتها بكل هذا القدر من التضحية والمسئولية : أنها حرّة أجاد مربّوها زراعة الحرية في صدرها فاستوت على سوقها لتعجب الاحرار وتغيظ عمالقة البطش والاجرام .
لقد عانينا في طفولتنا كثيرا من "العصا والكفّ والشلّوط "، كنّا نعيش حياة البؤس والشقاء في مخيمات اللاجئين، وفي المدرسة يصبّ مدرسوها جام غضبهم من حياتهم القاسية نتيجة تشريدهم من ديارهم على طلابهم ، وان وصل خبر "قتلة" الاستاذ للاب يؤاجر الاب بدوره بقتلة اضافية معبرا عن تضامنه مع الاستاذ ويتفاخرا بأنه لا يتوانى في تربيته لولده ، والنتيجة أننا عشنا حياة الاستبداد فنهاب سطوة الاحتلال ونرتعب عند ذكر السجون والتحقيق والاعتقال أو السياسة بشكل عام ، لقد قضينا سنوات طويلة لنبرأ من طبائع الاستبداد التي آجر الكل في ترسية قواعدها في نفوسنا ، زاد الاحتلال من بطشه وازدادت حياتنا بؤسا وفقرا وشقاء وانكشف الوضع على مجتمع يلهث للعمل في ورشات المحتل أو مهيض الجناح عند وكالة الغوث ليوقّع كل عام على التعهد بالابتعاد عن اية مشاركة سياسية . إلى أن أسعفتنا انتفاضة الحجارة لتقلب الطاولة ويكتشف الشاب الفلسطيني والفتاة الفلسطينية وحتى الاطفال بأن هذا الجيش الذي ترتعب منه جيوش الدول العربية مجتمعة يرتعب من حجر طفل فلسطيني .
هبة اللبدي ظاهرة ومدرسة ووصفة راقية جدّا لزراعة قيمة الحرية في نفوس أبنائنا ، هي مدرسة في صناعة الاحرار .
فهل تنجح مدارسنا في زراعة قيمة الحرية ؟ ومن الاهم حفظ الكم الكبير من المعلومات أم زراعة هذه القيمة ؟ ما فائدة كمّ المعلومات إذا حملها وأتقن ترديدها مجتمع العبيد ؟
العصا تسير باتجاه آخر مختلف عن الاتجاه الذي تسير به الحرية ، العصا لا تليق الا بالاستبداد والمستبدّين ..
اما من يقول العصا عند الضرورة وتقدر بقدرها ؟ فمن يملك هذا الميزان اذا فُتح الباب للعصا ، وكيف ومن سيزن وزن هذه العصا وسرعة انطلاقها والمكان الذي ستقع عليه ، وحجم المشاعر الذي تهتك نسيجه وكيف سيعاد نسجه وترميمه ؟ لا يليق بمعلم الناس الخير وبمن يريد زراعة القيم أن يستخدم العصا أبدا فهما وجهان متناقضان . وكنا نتساءل في السجون عن الممرض الذي يحضر الدواء ثم تجده عند قمع المعتقلين يحمل الهراوة وجرة الغاز : نتساءل كيف تجتمع العصا والدواء في رجل واحد ؟
إذا أردنا أن ننتج أمثال هبة اللبدي بعنفوانها وارادتها القوية وعشقها للحرية وفلسطين ( وامثالها كثيرون ولكن اردت تركيز المثال) فعلينا بالاهتمام بزراعة القيم والتي تقف على رأسها قيمة الحرية حيث ولدتنا أمهاتنا أحرارا ، وان هذه الحرية أهم من المعلومات والعلامات وأن يجلس طالبنا في الصف مكتوف اليدين صامتا يخشى العصا أن تقع على رأسه ويرجو حسن الختام في مدرسة وبيت ومجتمع لم تورّثه سوى طبائع الاستبداد .