في ممر يكاد يخلو من المارة تجاهد أشعة الشمس صباحا للعبور عبر أزقة مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يحفر الفقر والملح المتبقي من تسرب مياه أحد خزانات المياه بمخالبه ليشق طريقه عبر جدران منزل متواضع تسكنه ثلاث عائلات في مساحة لا تزيد عن (90) مترا.
أمام المنزل تجلس سيدة ثمانينية تبيع الحلوى للأطفال علها تستطيع توفير ما يسد رمقها ورمق ثلاث أسر، توالت على معيل أحدها نوائب الدنيا مجتمعة لتحيل حياته وحياة أسرته الى مسلسل من المعاناة.
حكاية صلاح
تروي الحاجة حِسن أبو عيسى بكلمات لا تخلو من الدموع حكاية ابنها الأصغر صلاح أبو عيسى، تحدثنا عن شبابه وأناقته وحرصه الشديد على لبس الملابس الثمينة "الماركة"، عن عطره الخاص واعتداده بنفسه، وعن براعته في مهنة "الميكانيكا" وتصليح السيارات الحديثة، واعتماده على نفسه، تخبرنا عن عطفه وحبه لمن حوله ومساعدته لهم.
وتضيف السيدة المكناه أم محمود: "صلاح كان يحب يلبس ويتشيك، زوج نفسه من تعبه وكون عائلة واستأجر بيتا في المخيم، ورزقه الله حَلا وتُقى".
انقلبت حياة صلاح مع بداية حرب 2014.. أحداث لم تمح من الذاكرة تتابع الحاجة أم محمود وهي تحاول أن تخفي دمعتها: "قبل يومين من عيد الفطر خلال الحرب على غزة عام (2014)، وخلال ساعات من الهدوء النسبي تزامنت مع شائعات تتحدث عن هدنة مؤقتة خلال أيام العيد، وتحت وطأة الضربات وشدة القصف قرر صلاح أن يرسل زوجته وابنتيه الى بيت عائلتها في مخيم البريج بعيدا عن بيته المستأجر في منطقة "الغول" شمال مخيم الشاطئ".
جاء العيد ثقيلا على عائلة صلاح.. قصف الاحتلال منزل عائلة زوجته (آل جبر) خلال فترة الهدنة، نجت ابنته حلا واستشهدت تُقى ضمن (19) شخصًا غالبيتهم من النساء والأطفال، ودخلت زوجته في غيبوبة وأرسلت الى أحد مشافي الداخل المحتل نتيجة اصابتها الشديدة.
أصيب صلاح بحالة من الحزن الشديد والمرض، وبدأ يشكو من آلام متكررة في الرأس ، وأصبح يسير بصعوبة على قدميه ، فالمصاب جلل، وتم تشخيص حالته بمرض غريب ونادرًا ما يصيب الرجال "التصلب الدماغي المتعدد" .
تردت حالة صلاح الصحية والنفسية رغم تماثل زوجته للشفاء، وساءت أحواله المادية وتراكمت عليه الديون وخسرت الأسرة معيلها الذي أصبح يحتاج لمن يعيله ويساعده على قضاء حاجته، وانتقلت أسرته لتعيش في غرفة صغيرة في منزل العائلةلتبدأ سطور مرحلة جديدة من المعاناة مع المرض والفقر وضيق المكان.
هنا لم تستطع الحاجة ام محمود أن تكمل الحديث معنا بعد أن تغلبت عليها دموعها فأشارت الى زوجته "أسماء جبر" لاستكمال الحديث.
احتلال وحصار وانقسام
"صلاح كان يمشي بصعوبة، وحاولنا معالجته في مستشفيات غزة لكن حالته تأخرت نتيجة عدم توفر الدواء الخاص بحالته" تستكمل الزوجة الحديث: "لقد أرسلوا لنا الدواء من رام الله بعد عامين بسبب الانقسام.. الوقت أصبح متأخرا فحالة صلاح الصحية تدهورت وتحتاج للعلاج خارج قطاع غزة".
رفض الاحتلال كل محاولة العائلة لتحويل صلاح للعلاج في مستشفيات الداخل المحتل أو القدس المحتلة متذرعا بأسباب أمنية وهمية رغم تدخل العديد من المؤسسات الدولية والصليب الأحمر.
بعد العديد من المطالبات والضغط من المؤسسات الحقوقية طلبت مخابرات الاحتلال من صلاح القدوم لمعبر بيت حانون "ايريز" لمقابلة الضابط المختص، وتفاجأ صلاح الذي أصبح يسير على كرسي متحرك بمساعدة آخرين بدناءة هذا الضابط الذي ساومه للعمل مع المخابرات مقابل السماح له بالمرور واستكمال العلاج.
"بدي أموت في غزة"
على كرسيه المتحرك تمالك صلاح ما تبقى له من قوة وإرادة وبصق في وجه رجل المخابرات وشتمه قائلاً له "رجعني بدي أموت في غزة" تستطرد الزوجة حديثها: "مخابرات الاحتلال لازالت تتصل علينا وتساومنا على السماح بمروره عبر المعبر للبدء في علاجه الذي أصبح متوفرا في مستشفيات الداخل الفلسطيني المحتل".
ورغم سفر صلاح في العام 2017 للعلاج في أحد المشافي المصرية بعد طول انتظار إلا أن تأخر الحالة وتأخر الدواء وصل بالمرض لمراحل متقدمة، وأصبح صلاح يعيش على وقع المسكنات والمهدئات من أجل السيطرة على الحالة صحيا ونفسيا في انتظار أن يسمح له الاحتلال بالعلاج في الداخل.
وأكد الطبيب الفلسطيني المشرف على الحالة د. أشرف بركات، أن حالة صلاح ابو عيسى المرضية رغم ما وصلت اليه من سوء، إلا أنه يمكن علاجها في مستشفيات الداخل المحتل وتحتاج الى متابعة مستمرة.
وتعيش أسرة صلاح حاليا في غرفة صغيرة ضمن منزل العائلة المكون من ثلاث غرف مهترئة مضى على بنائها أكثر من (50 عاماً)، وتضطر زوجته الى تغسيله ومساعدته لقضاء حاجته على كرسي خاص داخل هذه الغرفة نظرًا لأن مساحة حمام المنزل لا تتعدى "1 متر".
وتعتاش العائلة من مخصصات التنمية الاجتماعية (750 شيقلا كل ثلاثة أشهر)، وتقول زوجته إن هذا المبلغ المتقطع والذي أصبح لا معاد محدد لاستلامه، لا يكفي ثمنا لدوائه المستقدم من مصر كونه لا يتوفر في غزة، وأنها أصبحت لا تستطيع أن تلبي حاجة أسرتها من غذاء وكساء ولا حتى دواء رغم مساعدات بعض المؤسسات و"أهل الخير".
وتتابع الزوجة: "في غرفة قديمة مساحتها لا تتجاوز خمسة عشر متراً، هنا معيشتنا وأكلنا، وهنا مغسلنا وحمامنا وكل شيء ، وقدمنا "للأونروا" وللشؤون ووعدونا ان يبنوا لنا بيتا أو شقة خاصة ولكن عالفاضي.. كلام دون تنفيذ".
حال أسرة صلاح لم يختلف كثيرا عن حال أسرة شقيقه أبو ابراهيم الذي يعاني من مرض مزمن، والذي يعيش في غرفة مجاورة مع (8) أشخاص، ويطالبون جميعا بمسكن ملائم لإيواء أكثر من(15) شخصا يعانون ويلات الفقر والمرض والحصار كما بقية أبناء قطاع غزة.