فلسطين أون لاين

​جذور التطبيع العربي مع المشروع الصهيوني

...
إسلام حامد

قبل ذي بدء يجب التنبيه إلى أن القيادة العربية المعاصرة والجاثمة على صدور الأمة العربية لم تتوالد من الحالة الديمقراطية الحديثة التي تتمحور حول حرية الاختيار عن طريق الانتخاب لكيفياته المتعددة، التي تُنشئ أيضا حالة من العقد الاجتماعي بين الشعب والقيادة تحت ظل التراضي بين الراعي والرعية؛ لكن ولكل متابع للشأن العربي يصل إلى نتائج متقاربة في الكيفيات التي أنشئت الدول العربية المعاصرة والقيادة الحاكمة لها والغالبية العظمى (إن لم تكن الساحقة) تدور في فلك الحالة التبعية الوظيفية في الدول الاحتلالية الغربية من جهة - المحتلة للوطن العربي بعد الهزيمة التركية –العثمانية- في الحرب العالمية الأولى– ومن جهة أخرى فإن تبعية بعض الدول في المجلس الشيوعي الماركسي- التحالف الشرقي بين دول اليسار العربي والاتحاد السوفيتي – كما حصل مع دعاة البعثية أو أرباب الانقلابات الثورية المزعومة، والجامع بينهما هو الدعوة إلى قيام القومية العربية كهوية جامعة ومعبرة عن الشخصية العربية – التي في مضمونها الفكري تحمل وجاهةً واعتباراً لأن هناك حقا لكل عرقية أن تعبر عن هويتها الثقافية واختيارتها الدينية؛ لكن في حقيقة الأمر وفي الحالة العربية اعتبرت (القومية العربية المادة الأساسية التي تغذي الحضور العسكري والسياسي لمنظومة الحكم العربي لاختلاف مشاربها والحجة المقدسة التي تعطي صاحبها الشرعية لقهر كل من يخالف هذا النظام أو ذاك) .

ولنا في التاريخ عبرة

في الأمس القريب تحالف الشريف حسين بن علي مع المحتل الإنجليزي من أجل إنهاء نموذج الحكم الإسلامي المتمثل بالدولة العثمانية (التركية) وإقامة دولة عربية جامعة تحت حكم حسين بن علي (دون السؤال هنا عن المروءة الضائعة في الاستقواء بالغرب الصليبي على المسلم المخالف لك). وليس هنا المجال للبحث والتمحيص حول ما قام به أمير الحجاز في حينه مع (أهميته البالغة) لكن لنا في هذه الحالة عظة وانتباهة مهمة تقودنا للحالة الميكافيلية التي انتشرت في عقل الحاكم العربي الذي نفذ كل رغباته عبر الحصان تارة وعبر الأمريكي والروسي فيما بعد تارة أخرى من أجل السيطرة على مقاليد الحكم العربي بأقبح الطرق والوسائل هذا حين كانت المنظومة الغربية أو الشرقية الداعمة للحاكم العربي المطلق تسعى إلى الثمن الذي سيدفع لها بسخاء من أجل الاستمرار بالدعم الذي لا ينتهي، ومن أهم هذه الأثمان الاعتراف العربي الرسمي بالكيان الصهيوني المجمع على إنشائه في حينه والتطبيع الرسمي الكامل مع هذا الكيان المسخ والذي أوجد في قلب المنطقة العربية وعلى درة أراضيها –فلسطين- المبادرة من أجل الحفاظ على مصالح الدول الغربية في سعيها الدائم لنهب ثروات الأمة العربية .

اتفاقية فيصل ووايزمن

لا يحتاج كل هذا الوضوح إلى تحليل، في الثالث من الكانون الثاني من عام 1919 وقع الأمير فيصل ممثلاً عن مملكة الحجاز اتفاقية مبادئ مشتركة (إن صح التعبير) مع الدكتور حايم وايزمن الذي مثل الحركة الصهيونية، وكان عراب الاتفاق لورنس العرب ضابط الاستخبارات البريطاني ومترجم الأمير فيصل . والمتابع لبنود هذه الاتفاقية يتوصل إلى أنها كانت تمثل إقرارا ولو ضمنياً من الأمير فيصل لوايزمن بالتخلي عن فلسطين مقابل استقلال الدول العربية.

ومن أهم بنود هذه الاتفاقية لا على الحصر وبتصرف:

1.الموقعان على الاتفاقية (بما يمثلانه) يدركان الصلات والقرابة بين العرب واليهود.

2. لبلوغ الغاية الوطنية يجب التعاون بين الدولة العربية وفلسطين الانتدابية.

3. أن تسود جميع علاقات الدول العربية وفلسطين الانتدابية العلاقات الحسنة.

4. تأسيس وكالات عربية ويهودية حسب أصول كل بلد منها والاحتفاظ بها.

5. اتخاذ كل الإجراءات التسهيلية للهجرة اليهودية.

6. من أخطر هذه البنود: عند إنشاء جسور إدارة فلسطين تتخذ جميع الإجراءات من أجل تنفيذ وعد حكومة الإنجليز في تنفيذ وعد بلفور.

7.الحَكم في ما إذا حصل تنازع هم الإنجليز.

هذه البنود وغيرها لم يكن ليتم تطبيقها لولا إقرار والموافقة العربية على أن تكون بريطانيا الاستعمارية الوصية المنتدبة على البلاد العربية، وعليه أعلنت بريطانيا عن الانتداب الذي تضمن وعد بلفور في جزء من صك الانتداب نفسه، والتساؤل هنا: هل هذا الإقرار والموافقة العربية على أن تكون بريطانيا الاستعمارية منتدبة على الأراضي الفلسطينية سيقود في رأي أصحابه إلى إنشاء الدولة العربية هي القومية الكبرى؟؟ أم أن هناك حقائق جديدة سيتم تأصيلها على الأرض مفادها إيجاد حكومات عربية وظيفية تتبع الدول الاستعمارية ؟؟

وناظر في أصحاب الرأي الأول بأن هذا الإقرار سيقود إلى إقامة الدولة العربية القومية الكبرى ومع عدم إغفال كل الكلمات المزينة بشعارات القومية الوطنية البراقة يجد أن لا شيء حصل من ذلك وهذا ما يقودنا إلى الرأي الآخر بأن هذا الإقرار إنشاء حقائق جديدة على الأرض وتم تأصيلها كعرف وطني وإنجاز ثوري في حين كانت تلك الحقائق تعيد رسم الخريطة الجوسياسية للمنطقة بما يتوافق مع مصالح الدول الاستعمارية فيها، ومن أهم هذه الدلالات الوظيفية للقيادة العربية تلك هو تعيين الأمير فيصل ملكاً على العراق وشقيقه الأمير عبد الله أميرا للكيانية شرق الأردن المصطنعة والذي تم (أي هذا التعيين) من وزير المستعمرات البريطاني وزعماء الاستعمار في الشرق عموما، وهذه الحالة الوظيفية التي اتسمت بالجهالة عند أصحابها وجدت من أجل بيع البلاد العربية للمحتل الإنجليزي والفرنسي من جهة ومن جهة أخرى لتثبيت رغبات الحركة الصهيونية في إنشاء الكيان الصهيوني الظالم على الأراضي العربية الفلسطينية وهذا ما تم.

في حين كانت هذه الحالة الوظيفية من مقومات التطبيع العربي مع المحتل الصهيوني نجد أن الدول التي أقيمت بمسمياتها الوطنية الإقليمية مثلت بشكل أساس حرس الحدود والحامي الأبرز للكيان الصهيوني من المس بأي تحرك وطني حقيقي يدعو إلى تحرير الإنسان العربي من قيوده الاستعمارية وتحرير الأرض الفلسطينية من ظلم التاريخ لها، هذا وفي الوقت الذي كان يتم تثبيت أركان المنظومة العربية المعاصرة بالمنطقة كانت الشعوب تعيش في حالةٍ من القمع والإجحاف بحقهم وفي كل المجالات، وأوضح مثال لذلك عندما أرسل مفتي حيفا بشكوى باسم الشعب الفلسطيني( يستنجد بالعرب) يتضمن حالة الاضطهاد والتمييز التي تقوم بها الإدارة الإنجليزية في فلسطين ومطالبة الشريف حسين بالتدخل السريع والفوري لحماية فلسطين من الأطماع الخبيثة الأجنبية، فكان جوابه: (حيفا، مفتي حيفا ، ليس لدي ما أبديه في هذا إلا الأسى والحزن) وهذا إن عبر عن شيء فإنما يعبر عن حالة الاستسلام والتبعية المطلقة التي قادها ومثلها - الشريف الحسين وأبناؤه لمشغليهم في المنطقة.

"عقدة نقص الذات في القيادة العربية أمام المستعمر الغربي؟"

ولا أدل على ذلك إلا حاجة تلك القيادة إلى المستعمر المحتل الغربي والتحالف معه من أجل إنشاء الدولة العربية القومية والوطنية الكبرى، على حساب إنهاء الدولة الإسلامية العالمية (العثمانية). جزء مهم من حالة نقص الذات تلك هو ناتج عن حالةٍ من الجهالة الوجدانية، والفقدان للهوية المعبرة عن الشخصية العربية، واستبدالها بالمستعمر الغربي وتقمص شخصيته وهويته الثقافية، كل هذا من أجل أن يصبح لهذه القيادة العربية قيمة وحضور أمام مجتمعاتها بما يتوافق مع خدمتها للغرب.

ما يفهم مما قيل سابقًا:

أن قبول الأمير فيصل بالانتداب على فلسطين وما يرمي إليه وإدراكه وتقديره لمعنى التعاون العربي اليهودي المشترك وما يجره هذا التعاون ويأتي به من خير ونعمة وبركة على فلسطين والمنطقة العربية يؤسس لحالة التطبيع العربي مع المحتل الصهيوني وإيجاد العوامل المشتركة من أجل تنمية كل المصالح التي يمكن تحقيقها، التي تخدم الطرفين القيادة العربية والصهيونية. وعليه (تم توقيع اتفاقية فيصل وايزمن في الثالث من كانون الثاني عام 1919) التي في مضمونها تُقرر ما لليهود من حقوق تاريخية في فلسطين وتسهيل الهجرة إليها على أن تكون بريطانيا بوعودها المقطوعة للعرب في رسائل (الحسين مكماهون)، وقد اتخذ اليهود هذه الوثيقة سلاحا قاطعا وحجة يقدمونها كلما اقتضت الظروف ويلوحون في وجوهنا ويقولون بقبول فيصل بالوطن القومي العبري.

لم يكن ليتم ذلك لولا وجود قيادة عربية تعمل بالوكالة لصالح المستعمر الغربي والذوبان فيه، وكما نقل الدكتور حسين الخالدي في مذكراته: (وجاءت الحرب العالمية الأولى ورمت به- أي لورنس العرب- الأقدار إلى مصر ثم إلى جزيرة العرب، فقاد الثورة مع فيصل، وأحبه العرب وصدقوه وركنوا إليه وقربه جلالة الحسين والأمير فيصل منهما، وكان مستشارا لهما في شؤون السياسة والعسكرية، واتخذاه عنوانا لنبلِ البريطاني ولم يكونا مخطئين في ذلك، قد كنا جميعا حديثي العهد بالغرب ورجاله وكنا نثق بمن عرفناهم من البريطانيين ثقة لا حد لها). (ويقول أيضا مطارنة الإنجليز في القدس مضرب للأمثال في النبل وعلو الجانب، وكنا نعتقد في أساتذتنا من الإنجليز أنهم من غير طينة البشر وأنهم أقرب إلى الملائكة منهم للإنسان).


إسلام حامد
عضو اللجنة القيادية لأسرى حماس في سجون الاحتلال